الرئاسة تختصر سلّم الأولويات.. والأحلام
عن مكابرة المسيحيين في مواجهة زلازل المنطقة
مهما كابر المسيحيون في نبذهم لـ”التخدير الثاني” لمجلس النواب، بعدما جرّتهم لعبة المزايدات، إلى الوقوف صفاً واحداً في مواجهة، شكلية طبعاً، فهم يدركون جيداً أنّ “ممانعتهم” هي لأمر صار مفعولاً، وأنّ التمديد بات وراء الجميع.. ولا حاجة بالتالي لإشهار مزيد من الأسلحة ما دامت المياه ستجري، برضاهم أو من دونه.
عملياً، ليست هذه المسألة هي التي تؤرق أذهان القادة المسيحيين. في قرارة أنفسهم لا حاجة لمن يبلغهم أنّ إجراء الانتخابات في الظروف القائمة، هو ضرب من ضروب الخيال، وأنّ أياً من شركائهم لن يجاريهم في “أحلامهم الديموقراطية”. وبالتالي هم مقتنعون بأنّ الضغط بوجه التمديد لن يؤتي ثماراً انتخابية مهما رفعوا سقف التعطيل. ولهذا اختار سليمان فرنجية أن يغرّد خارج السرب البرتقالي ويتعامل ببراغماتية مطلقة رافعاً يده تأييداً لقانون نقولا فتوش.
العقدة بنظرهم في مكان آخر. الرئاسة طبعاً. لها الأولوية وفي سبيلها توضع كل الخطط الاستراتيجية، وترفع من أجلها حواجز التنافس بين أبناء مار مارون، حتى لو منعتهم هذه الأسوار من رؤية الحريق الذي يلتهم المنطقة ويهدد كل معالمها الجيوسياسية.
بهذا المعنى، كان من السهل على سامي الجميل أن يغادر “حصنه” في بكفيا ليلتقي على التوالي كلاً من رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس “تكتل التغيير والإصلاح” العماد ميشال عون، حيث يفترض أن تقوده جولته للقاء رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية.
بالنسبة للشاب المتني، لا قيود رئاسية تكبل يديه، حتى لو كان الرئيس أمين الجميل مشروع مرشح قيد الانتظار، وتبقيه أسير انتظار “فَرَج” ما قد يأتيه على صهوة التغيير في المنطقة، كما يفعل “زعماء” الطائفة. ولهذا قرر أن يتحرك باتجاه هؤلاء.
في المضمون، لا شيء يوحي بأنّ نقاشات الجميل مع مضيفيه آنية، بمعنى تناولها مستجدات الساحة اللبنانية، سواء تلك المتصلة بالتمديد أو عمل الحكومة، أو حتى مصير الرئاسة المارونية. وفق عارفيه، ثمة مخاوف أخرى تنخر في رأس الرجل وتدفعه إلى طرق أبواب الخصوم والحلفاء – المنافسين.
يقول هؤلاء إنّ حراك النائب الكتائبي جاء نتيجة المشاورات التي أجراها في السعودية، حيث تأكد له أنّ ما يجري في المنطقة قد لا يوفر لبنان من أثمانه وتداعياته، وتلمّس بالحقائق أنّ ثمة زلزالاً تغييرياً يضرب كل ما وراء الحدود اللبنانية، ومن شأنه أن يفرض واقعاً جديداً، لا يشبه أبداً ما سبقه.
في الواقع، لم يكتشف الرجل “البارود”، لأنّ ما قيل له في الجلسات المغلقة يتمّ التداول به في العلن وفي اللقاءات المشرّعة. لكن المشكلة تكمن في سلّم الأولويات الذي تبرمجه القوى المسيحية لجماهيرها وناسها. تختصر الرئاسة هاجس الزعامات المسيحية وتكاد تعمي بصيرتها عن مخاوف أخرى تطرق الأبواب، ولو بشكل خافت.
يحلو لبعض المتابعين تشبيه مشهد اليوم بذلك الذي حصل في أواخر الثمانينيات، حين كان العالم والمنطقة يغليان بفعل التطورات الدراماتيكية التي حصلت، بدءاً بسقوط الاتحاد السوفياتي ودخول صدام حسين الكويت ووصول المارينز إلى المنطقة.. بينما كان المسيحيون يتلهون بصراعاتهم الذاتية ويدمرون أنفسهم، غير قادرين على فك شيفرة الأحداث الانقلابية التي تحصل من خلفهم ورصد مفاعليها وآثارها عليهم.
انطلاقاً من هنا، يحاول سامي الجميل كسر الحواجز النفسية بين هؤلاء، كما يؤكد عارفوه. ليس المطلوب الاتفاق فوراً على الرئاسة أو حسم مصيرها ولا حتى تجميد سباقها، ولكن لا بدّ بنظره من تغيير ترتيب الأولويات: الخوف على المصير، دور لبنان في صراع المنطقة، الوجود المسيحي ومستقبله، امتدادات النار السورية ومدى امكانيتها في التأثير أكثر في الداخل اللبناني.. كلها قضايا تستحق أن يراجعها القادة المسيحيون بشكل مشترك.
حتى اتفاق “الطائف” قد يتعرض للتنقيح والتعديل.. أو ربما “الانقلاب”. ومع ذلك ثمة برودة في التعامل مع هذا الاحتمال، مع أنّه قد يتحول بين ليلة وضحاها إلى أمر واقع، يفترض أن يكون المسيحيون قد استعدوا له وصاغوا له الأوراق التحضيرية.
لا يعني ذلك أنّ ثمة مبادرة متكاملة تظلل حراك النائب المتني، ولا يعني أنّه مرتبط بأجندة معينة أو حدث متوقع. لكن لا بدّ لرؤوس الموارنة من أن يضعوا خلافاتهم المزمنة جانباً ويبحثوا معاً عن مصيرهم المشترك. فالكل يستقل مركباً واحداً، ولا أحد منهم فوق رأسه خيمة قد تحميه من عواصف المنطقة.