«من علائم الجنون الأكيد تكرار الأمور بتفاصيلها وانتظار نتائج مختلفة!»
(ألبرت أينشتاين)
يقول أمين معلوف في كتابه «هويات قاتلة» ما هو أشبه بالحلم الحكمي: «لا أحلم بعالم لا مكان للدين فيه، وإنما بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الإنتماء. بعالم لا يستشعر فيه الإنسان، مع بقائه متعلقاً بمعتقداته وعبادته وقيمه الأخلاقية المستلهمة من كتاب مقدس، بالحاجة إلى الإنضمام إلى اخوته في الدين. بعالم لا يستخدم فيه الدين وشيجة بين اثنيات متحاربة، لا يقل أهمية. وإذا كنا نريد حقاً تجنّب أن يستمر هذا الخليط بتغذية التعصب، والرعب، والحروب الإثنية، يجب التمكن من اشباع الهوية بطريقة أخرى».
عشية ١٣ نيسان ١٩٧٥، اليوم الذي شكل الإنطلاقة الرسمية لحرب لبنان الطويلة مع نفسه، انقسم اللبنانيون بشكل عام إلى ثلاث فئات:
الأولى تضم غلاة المارونية السياسية الذين اعتبروا أن لبنان قد وُجد لأجلهم، فتعاملوا معه على أساس أنه ملكية خاصّة، وعندما طالب باقي اللبنانيين بحقوقهم، فضّلت هذه الفئة أن تدمّر الوطن على أن تتشارك فيه مع الباقين بناءً على القول: «نحنا يا بدنا لبنان مثل ما بدنا يا أمّا عمرو ما يكون».
الثانية ضمت معظم المسلمين المتخفين وراء الشعارات القومية العربية، الذين لم يقتنعوا أصلًا بحق لبنان بالوجود كوطن مستقل، فتعاملوا معه على أساس أنه حالة مؤقتة، أو جزء من تركيبة خبيثة (سايكس – بيكو) لا بد أن تزول يومًا. فشرعوا الأبواب لكل تخريب في الأرض لتقويض كل مقوِّمات الدولة، وكان بعضهم مشاركًا وآخرون متفرجون بتجاهل مريب وشماتة ظالمة.
الثالثة ضمّت فوضويين ويساريين ويمينيين وثوريين ومهمشين أعلنوا فشل تجربة لبنان الدولة فقرروا هدمها من دون أن يكون لأي منهم مشروعًا لإعادة البناء.
قد يكون من قبيل التبسيط حصر تحليل أسباب انهيار الدولة والحرب الأهلية، في الوضع الداخلي، فقد كان للظروف الإقليمية والدولية دور خطير خاصة في مراحل السبعينات من القرن الماضي، ولكن المؤكد هو أن انهيار أركان الدولة الأساسية كان من أهم مسبباته فقدان إيمان أبنائه بتركيبته، مما شرع الأبواب عريضة أمام التدخلات الخارجية. لكن اليوم، ومع تغيير قواعد الإنقسام، بقي معظمنا عالقون على مقاعد بوسطة عين الرمانة بانتظار ساعة الصفر للجنون المتجدد.
لا أريد أن أغرق في المواعظ الخرقاء، ولست أنا بواعظ على كل الأحوال، فلست أدّعي أنّ اليأٍس لم يدخل يومًا إلى قلبي، أو أنني لم أفكر بالهروب إلى بلد لا هواجس فيه! لكن الغربة والشماتة وعزة النفس منعتني دائمًا من الهروب، فعندها كنت ألجأ إلى التحايل على اليأس للوصول إلى تسوية معه أو الانتصار عليه أو تجاهله..
لكن أيّ تسويات تصبح مستعصية عندما يكون أصل المشكل والإنقسام هو الهواجس، وتصِل الحلول إلى حد الإستحالة عندما تكون الهواجس معممة على مجموعة ما، فيتداخل فيها الواقع بالأساطير والحقائق بالأوهام والتجربة بالأفكار المسبقة، والبحث الموضوعي بالفرضيات وأقاصيص الجدّات بآمال الأحفاد، فتتحول الهواجس إلى يقين ويصبح هذا اليقين شعارًا لمجموعة تتصرّف على هدايته حتى لَو أوصلها إلى الكارثة..
في بلدنا هواجس بعدد الطوائف، وكلّ منا يظن أن هاجسه هو غير هاجس الآخر، وأنّ هذا الهاجس هو الحقيقة المطلقة، وأن كل هواجس الآخرين هي زائفة أو مفبركة. ولو تفحّصنا هذه الهواجس بمجملها لرأيناها متشابهة إلى حد التطابق في المضمون والتعابير..
كلها يتحدث عن الآخر بالجملة، متجاهلًا الأفراد ومتغاضيًا عن كل اللحظات المضيئة، ومركّزًا على المساوئ بحيث تنسب اللحظات القاتمة إلى الطائفة الأخرى بكل أفرادها، أمّا اللحظات المضيئة فتتحول إلى نوادر عابرة لأفراد «لا يعبّرون عن حقيقة طوائفهم»!!.
أمّا في المضمون فتنسب الصفات «العاطلة» إلى أفراد الطائفة الأخرى، مثل العنف والخبث والحقد والتخلف وسرقة الحقوق وغيرها، وإن كان أحد أفرادها شجاعًا يصبح متهورًا وإن كان كريمًا يصبح منافقًا وإن كان متواضعًا يصبح وضيعًا وإن كان موضوعيًا ومعتدلًا ومتسامحًا يقال عنه أنه «غريب وكأنه ليس من طائفته!».
أمّا عن مسوّغات الهواجس فحَدّث ولا حرج، وهي بالمجمل تخلط التاريخ بالأساطير، وتبتعد عن الموضوعية في التحليل، وتتجاهل كل ما لا يؤيد يقينيّاتها التي تعتمد على فرضية مقدسة تجرّد الآخر حتى من واقعه كبشريّ ليتحوّل جزءًا من مجموعة أو دابة في قطيع يتحرك ويتصرف وفق برمجة مفترضة بطائفته..
ما لنا وكل ذلك، فعلاج مرض الهواجس هو من أصعب المسائل في الطب النفسي، ولكن أحد أهم وسائل بدايات العلاج تكمن في الاقتناع بوهمية الهواجس، وبالتالي محاولة تبديد الخوف النابع من هذه الهواجس..
المؤكد اليوم هو أن الجدل القائم بخصوص قانون الإنتخابات والحلول المطروحة تحت شعارات عدالة التمثيل واسترجاع الحقوق الطائفية وتبديد الهواجس لن تؤدي إلا إلى فتح الباب للجميع لطرح هواجسه المتعارضة بالكامل مع هواجس الآخرين، وبالتالي العودة إلى منطق الغبن والشعور بالغربة والسعي إلى إعادة النظر بكل التسويات المطروحة من خلال منطق عالق في البوسطة. لقد شهدت بعض كلمات ألقيت في الأعياد نسبةً كبيرةً من الإغراق في المنطق الداعشي في طرح مسألة قانون الإنتخابات وربطها بالمدلولات الدينية ومن ضمنها مثلًا التشبيه بقيامة السيد المسيح، ولحسن الحظ سحبت سريعًا من التداول.
المنطق الوحيد الممكن اليوم هو أن نخرج من البوسطة بشكل نهائي للبحث عن حلول والحل ليس بتعميق التفرقة السياسية على أساس الطائفة أو المذهب.
(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»