معارك “كسر عظام” في جامعات لبنان
في كلِ مرة تحصل انتخابات طلابية في لبنان، يسند من كانوا طلابا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وجوههم على أكفهم ويسرحون في شريط الذكريات “الابيض والأسود”، متابعين مسار الـ”نيو” انتخابات طالبية التي تطغى فيها كل الألوان الفاقعة. يتمهلون، يقفون، يراقبون، ويتحسّرون على ماضٍ ويحللون في مستقبل. وبين الماضي والمستقبل ثمة حاضر. فماذا عنه؟ ماذا عن الحراك الطلابي اليوم في قراءة من صنعوه ماضيا؟
عصام خليفة، ملحم شاوول، جبور الدويهي، بول شاوول… أساتذة كبار صنعوا فرقاً في الماضي ويقرأون، في العمق، في تجربة الحاضر. هؤلاء راقبوا الانتخابات الطالبية في الجامعات اللبنانية على مدار اعوام ولّت وصولاً الى اليوم، الى انتخابات جامعة هوفلان، التي رأى فيها طلاب اليوم “كسر عظام”. فهل هكذا “تُكسر العظام”؟ وماذا يعني الفوز أو الخسارة اليوم؟
عصام خليفة، الأكاديمي والباحث والنقابي الذي أسس “حركة الوعي” في العام 1968 في لبنان وشغل منصب أول رئيس للاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية، يراقب المشهد من جرد البترون حيث يمكث هذه الأيام ويخرج باستنتاجات أن هناك طلاباً طرحوا العلمانية في الجامعة الأميركية وربحوا، وهناك طلاباً طرحوها في الجامعة اليسوعية كما طرحتها حركة الوعي في العامين 1968 و1969 لكنه يأسف لتسلل أناس لتشويه الصورة وإلغاء الآخر ويقول “موريس دوفرجيه، عالم السياسة وأستاذ القانون الدستوري الفرنسي، قال ذات يوم “الأحزاب عماد الديموقراطية” لكن ما يحصل اليوم هو افتقار الجميع الى برامج تقرن المشاكل والمطالب بحلول للبيئة وللاقتصاد وللتربية وللدفاع عن الوطن”.
الطلاب يخوضون الانتخابات اليوم بلا برامج واضحة، وهم ربحوا أو خسروا، لن يغيروا بأسلوبهم شيئاً. فما رأي ملحم شاوول، الباحث في علم الاجتماع؟ يجيب بما تمخضت عنه انطباعاته للعمليات الانتخابية الطالبية قائلاً “ثمة انطباع يتولد جراء المشهدية التي نراها محوره ان كل الفرق والحركات المشاركة ليست مستقلة تماماً بل هي امتداد لكل الحركة السياسية القائمة في البلد” ويشرح “كانت الجامعات حتى سبعينات القرن الماضي ناشطة انتخابياً الى أن انطفأ بعيد اندلاع الحرب كل شيء. فلم نعد نسمع مناداة بمشاريع اصلاحية للتعليم وادارة الجامعة والقضايا الوطنية الكبرى. الحركة الطالبية كانت قبل الحرب تملك أجندات وتضم قادة أنشأوا لاحقاً أحزاباً وانبثقت منهم قيادات حقيقية نذكر منهم أنور الفطايري وحسن منيمنة الذي شغل في مرحلة من المراحل وزارة التربية لكن لسوء الحظ لا يملك شباب اليوم أجندات واضحة وأفكارهم ليست إلا انعكاساً لشوارع لبنان المختلفة ودهاليز السلطة المختلفة ولا تتمتع باستقلالية، بدليل ان ما رأيناه في اليسوعية في اليومين الماضيين، هو امتداد لما كنا نراه منذ عام في باب ادريس، في ظل وجود حالة عامة سمّت نفسها حالة علمانية. وكلمة العلمانية في حد ذاتها لا تعني وجود أي حلّ. فالعلمانية قد تكون ديموقراطية او ديكتاتورية. فها هي فرنسا دولة علمانية. طرح العلمانية ليس كافياً بل يجب ان يُقرن بعبارتي التعددية والديموقراطية. كلمة العلمانية استثمرت في تركيا ويوغوسلافيا… ويستطرد ملحم شاوول بالقول “أعتقد أن طلاب اليوم لا يمكن ان يتعلموا من تجارب الأمس، فكل طرف عليه ان يخوض تجاربه ويتعلم من نجاحاته وهزائمه. ومن تجاربه يتعلم. لأن ظروف الأمس تختلف عن ظروف اليوم. وكل تجربة لها خصوصيتها. لذا أشجع طلاب اليوم على خوض تجاربهم حتى النهاية والخروج بمواقف وتحالفات وشعارات واضحة”.
جبور الدويهي، الروائي الذي خاض في الستينات تجربته الطالبية الخاصة، يقول “كنا ايام زمان طلاباً مصقولين بالإيديولوجيا. كنا نقرأ في النظريات ونختلف حول الشؤون العامة ما عاد طلاب اليوم يكترثون لها. كنا نكترث للماركسية وما بعدها وللقومية العربية. كانت أفكارنا كثيرة أما اليوم فباتت حمولة الطلاب “أهون”. تبدل الزمان وما عادت الحركة الطالبية تواكب المصاعب التي واكبناها نحن. كنا نستند على تجارب الاتحاد السوفياتي وتشي غيفارا والصين”. لكن، ماذا عن المحاولات اليسارية الجديدة؟ يجيب “انها محاولات لا تعدو كونها ضدّ الساسة وأصحاب البنوك ومع العلمنة وضد الطائفية. انها شعارات في متناول اليد” ويستطرد “حلوين تلاميذ لبنان”. هؤلاء طلاب لبنان “حلوين” ولكن هل حراكهم الذي نراه في الانتخابات الطالبية جميل؟
يتحدث الروائي صاحب كتاب “شريد المنازل” و”مطر حزيران” وغيرهما من الروائع عن “انقسام حاد في الجامعات، حتى أنكم تشعرون في بعض الأحيان أن بعض الفروع الجامعية ساقطة عسكرياً في يد الثنائي الشيعي المسيطر على مجمل الوقائع بدل أن يكون التغيير ديموقراطياً. وبالتالي ثمة مناطق قليلة تشهد حراكاً طلابياً، هي المناطق المختلطة، أما في المناطق المقفلة فهناك أمر واقع فيها” ويستطرد “أيام زمان كان اليمين “مستحياً” وليس على الموضة “دي مو دي”، حتى أن الكتائب بدلت في طرح أفكارها لتظهر أكثر تقدمية أما اليوم فنرى أن التقدميين العلمانيين واللاطائفيين في الجامعات يطرحون أفكارهم ضمن جزيرة مغلقة والسؤال: هل يلحقهم المجتمع؟ هل يؤثرون فيه؟ في زماننا كنا وحدنا “على الغيمة”، لنا قراءاتنا وخلافاتنا وسجالاتنا كانت حول البورجوازية والأمبريالية ونقوم ببروفا حول كل المصطلحات ونطبقها في الصراع الطبقي أما اليوم فنحن أصبحنا في دولة هرمية لا طبقية. فالحرب أتت و”كنّست” كل شيء فعاد كل واحد الى بيئته ومربط خيله. وهناك شباب استمروا في الوسط أو زاحوا صوب الحركة الوطنية وحملوا السلاح ثم ما لبثوا أن أدركوا أن الأمور التي تجري أكبر منهم بكثير. في حين لم نر اليمين كثيراً إلا من خلال “حركة الوعي” التي كانت محاولة إصلاحية لليمين، تجسدت في مجموعة مسيحية تبنت أفكاراً إصلاحية لا تطرفية”.
ما رأي الشاعر بول شاوول الذي كانت تجربته الطالبية القيادية غنية؟ يجيب “كانت مواجهاتنا الانتخابية بين يمين ويسار أما الآن فلا يمين ولا يسار بل طوائف. كان صراعنا مع اليمين التقليدي، مع الكتائب والأحرار والكتلة الوطنية، وكان هناك اليسار التقليدي المتمثل بالشيوعي واليسار الجديد الذي تمثل بمنظمة العمل الشيوعي، وكان الناصريون أقوياء، أما نحن في حركة الوعي، التي شاركتُ في تأسيسها، فلم نكن لا مع هؤلاء ولا مع اولئك. كنا أول يسار غير ماركسي في العالم العربي، انطلقنا من الواقع لا من الإيديولوجيا. وكانت حركتنا الأقوى وهمنا كان الجامعة اللبنانية. خضنا إضرابات و”أكلنا قتلة” واعتصمنا وصمنا وناضلنا من أجل الحركة الطالبية”. ويستطرد: كنا “مسيسين” أكثر من طلاب اليوم. وكانت الطالبة اللبنانية تقرأ ماركس وفرويد. اليوم، فقد الطلاب والطالبات العقل السياسي وأصبحوا عملانيين أكثر منهم “متأملين” في الوضع السياسي. لا أولويات ولا أفكار. والحراك الذي شهدناه أخيراً كان أعظم حراك في تاريخ لبنان منذ العام 1861 لأنه حاول طي صفحة الطائفية لكنه عاد وتقاعس، كونه هتف من دون أن يوجد البدائل فتحول من حراك الى حركة تطالب. عجز هؤلاء عن تحديد الأولويات. وكانوا يقولون عمن يواجهونهم “زعراناً” بدل أن يقولوا أن من أرسلهم “أزعر” أما هؤلاء المهاجمين ففقراء مثلهم. نحن، في أيامنا، كنا نتظاهر مطالبين بعشرة مطالب وعارفين تماماً أننا لن نحصل إلا على إثنين. فلا يمكن لأي مطالب أن يقول “كلن يعني كلن”. أنا ضد هذه العبارة لأن على من يطالب “فكفكة” الجبهة المقابلة مطلباً بعد مطلب”. المستقلون أخطأوا. اليساريون أخطأوا. العلمانيون أخطأوا. والأحزاب أخطأت. ويقول بول شاوول “بدل أن يخرج هؤلاء، لا سيما الطلاب منهم، من القوقعة الى الأفق الرحب، ويكونوا جيل التنوير، أقحموا انفسهم أكثر في الظلامية والقوقعة. وباتوا، حتى في معاركهم الإنتخابية الطالبية، بلا أفكار. وأعظم شيء فعله هؤلاء الطلاب والطالبات أنهم أدانوا آباءهم كونهم كانوا طائفيين. وهذه عقدة أوديب في قتل الأب”.
نعود الى إبن عائلة الشاعر بول شاوول الأستاذ في علم الإجتماع ملحم شاوول لسؤاله عن كل ما قيل وعن مناداة من يرفعون العلمنة شعاراً “لا للأحزاب” وكلن يعني كلن؟ أليست الأحزاب هي التي يفترض أن تُشكل نواة الديموقراطية في الدول؟ يجيب “هذه المرحلة كانت تتطلب من هؤلاء تحديد طرف مواجهة ففعلوا من دون إستدراك الأمر بعرض الأفكار التشاركية بين جميع الطلاب، الى أي طرف انتموا، من أجل توليد الأفكار في إدارة الجامعات والإطلاع على موازنات هذه الجامعات وكيفية صرف الأموال وتقييم أوضاع الجامعات وكيف يريدونها. وكل ما يريدونه أن يكونوا أصحاب النفوذ والمكانة. وأن يقرأوا في الصحف أن المستقلين إنتصروا على الأحزاب أو أن الأحزاب إنتصرت على المستقلين. وغداً، بعد انتهاء الإنتخابات الطالبية، سيُوزع المدراء من ربحوا على الكليات ولا نعود نسمع بهم. ويختم الأستاذ في علم الإجتماع بالقول “لم نسمع أحدهم يطالب بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وهذا طبعاً غريب”.
ماذا بعد الانتفاضة؟
جبور الدويهي يتحدث بدوره عن دخول الحركات الطالبية في العالم في الإدارة والبرامج وهذا ما لم يحدث هنا. طلاب لبنان لا يطرحون من خلال الإنتخابات هواجس المستقبل بل يظهرون أضداد الآخرين و”بعدين”؟ ماذا بعد أن ينتصروا على “الضد”؟ هذه المرحلة تبقى مفقودة على الصعيد الوطني والطلابي. يضيف: “التجربة اليسارية يفترض أن تساهم في تغذية الأفكار لكن ما مصير الطروحات اليسارية والماركسية اليوم؟ دولة اليونان التي تميزت بحزبها اليساري الحاكم خضعت الى الاتحاد الأوروبي بعدما أقصاها. العالم تغير وهناك اشتباك قوي مع التأميم والملكية المشتركة ولم يعد يوجد من تلك المفاهيم إلا العدالة الإجتماعية والديموقراطية علماً أن التجربة الشيوعية لم تكن ديموقراطية.
طلاب جامعات لبنان يرفعون شعارات كثيرة من دون أن يسألوا إذا كانت قابلة للتطبيق”. وهنا يقول بول شاوول “اليسار اليوم تغير جذرياً ولم يعد ماركسياً، وأصبح هناك ليبراليون يخضعون للعرض والطلب. لذا، المطلوب من الشباب والشابات بعد انخراطهم في الانتخابات الطالبية (ما داموا لم يفعلوا قبلها) الإطلاع في الكتب ودراسة الواقع اللبناني”.
وماذا بعد؟ سنسمع من المنتصرين في الانتخابات كلاماً كثيراً يوازيه كثير من الكلام من الخاسرين لكن، هل سيسأل أحد هؤلاء: وماذا نفعل في نتائج الإنتخابات؟