كثيرون تحدثوا عن الشباب وأشادوا، وعن الثورة وأسهبوا، لكن مَن شاهد الشباب والشابات أمس وهم ينتفضون على واقعهم ويثورون، أيقن أن “الغد” بدأ يُرسمُ اليوم وأن زرع بذور القوّة في فتيات وفتيان، ما زالوا على مقاعد المدرسة والجامعة، أفضل ألف مرّة من مداواة رجال ونساء محبطين. فماذا عن مشهد البارحة الذي أثلج قلوب الكثيرين وجعل كثيرين غيرهم يفكرون في إعادة النظر بنهجٍ وأسلوبٍ ونمط؟
هي #ثورة_الطلاب. هذا كان هاشتاغ البارحة في مشهدٍ مختلف في مسار الثورة اللبنانية. طلاب لبنان خرجوا من مدارسهم ليقولوا، بجرأةٍ ملفتة، كلمتهم. هي جرأة لفتت الإختصاصيين في علم النفس وعلم الإجتماع والأهالي والجسم التربوي وطبعاً التيارات والسياسيين ومن خالوا أنهم ممسكون، الى أبد الآبدين، بشؤون البلاد والعباد.
الإختصاصي في علم الدماغ السلوكي الدكتور أنطوان سعد تابع مشهدية البارحة قال: “كلّ الأشخاص يمكنهم التعبير، بغضّ النظر عن العمر، وهذا ما يتناقض مع نظرة الكثيرين الى إمكانات المراهقين. الأطفال قادرون على التعبير وتقدير الواقع والتطورات والمتطلبات أكثر من الراشدين أحياناً، لأن الإنسان الراشد يكون “مبرمجا” بينما الصغار ما زالوا قيد البرمجة وقادرين، بتركيبتهم الدماغية، على التأسيس في شكلٍ مختلف. الكبار يتعاطون مع الوجود الحاضر على أساس الماضي، لذلك يتغلب لديهم الماضي وذكرياته على الحاضر. بينما ليس لدى الصغير ماضٍ وذكريات بل هو يُكوّن ذكرياته التي ستصبح ذات يوم، بعد حين، ماضياً لذلك هو قادر اليوم على رؤية الأمور في شكلٍ متجرد”.
الشباب والشابات تحركوا البارحة بعد أن خشي كثيرون، من الكبار والصغار، أن يكون نبض الحراك قد بدأ يخفت وخشوا من محدودية قدرته على إيصال المطالب الى “شطّ الأمان” وأن العبء الذي ينتج عنه بات أكبر من المردود. وفي هذا الإطار يشرح أحد الناشطين في علم الإجتماع وقريب من شؤون الشباب وشجونهم: أن ما رأيناه البارحة، في الشكل الجديد للحراك، والفكر الخلاق الذي ظهر فيه، وعفوية الشباب والشابات في التحرك وفي التظاهر أمام المباني الحكومية، أثبت أن “الثورة” ستصمد. هي ثورة الطلاب وليس الأحزاب “لأنه لو شارك الأحزاب في هيكلية هذه الثورة لاندثرت كونها غير قادرة على الإتفاق مع الآخرين على رؤية واحدة”.
حراك البارحة ذكّر الكثيرين بثورة أيار الفرنسية العام 1968 وبنبض طلابها ومقاومتهم. البارحة شهد لبنان، من أقصاه الى أقصاه، شارعاً مختلفاً لا يهتم بآنية الفعل وردّ الفعل ولا بالخطط المؤدلجة بل يبني بنفسه أفكاره، البعيدة من السلبية، التي هناك من يحاول إلصاقها بالحراك عبر توصيف من يقومون به “بقطاع الطرق”. هؤلاء الطلاب والطالبات انتفضوا على واقعهم وخاضوا ثورة مسارها يتشكّل من محطات. هي بدأت في 17 تشرين الأول، كما انطلقت ثورة الأرز في 2004 وتوّجت في 2005. مع فارق أن ثورة 2005 كانت مدنية وسياسية أما ثورة اليوم فهي إقتصادية واجتماعية.
نعود الى الإختصاصي في علم النفس الدماغي لنسأله عمَّن اعتبروا أن المراهقين غير قادرين على نبش الحلول. يجيب الدكتور أنطوان سعد: “أطلب عادة رأي الصغار، حين أعجز عن إيجاد حلول للمشاكل الصعبة، لكن هذا لا يعني أن أذهان الكبار، كلّ الكبار، تُصبح صدئة. هناك كبار يملكون أدمغة الأطفال، بالمعنى الإيجابي، إذ ينجحون في التفاعل مع الواقع وليسوا “مبرمجين”. ويستطرد: “لهذا قال يسوع الناصري للإنسان: لتدخل ملكوت الله عليك أن تعود طفلاً، أي أن يتحرر فكرياً مما تمت برمجته عليه. وحينها يتمكن من رؤية الحقيقة ويدخل إلى السعادة المطلقة. فلا تستهينوا أبداً بقدرات الطلاب والطالبات على إحداث التغيير الكبير”.
الحياة الى الأمام. ومشهدية البارحة دلّت على أن “المسار” على السكة. الطالبات والطلاب فاجأوا البارحة حتى أهاليهم. ورسموا في حراكهم خطاً بيانياً لا بُدّ أن يؤسس الى ما عجز عنه أسلافهم. وإن غداً لناظره قريب.