مرّة أخرى، يكاد اللبنانيون يضيّعون فرصة جديدة، للابتعاد بوطنهم عن لهيب الحرائق المشتعلة في المنطقة، وخاصة الشقيقة سوريا.
التسوية الرئاسية لم تكن مزحة، ولا بالون اختبار، ولا كانت بالتأكيد نزوة سياسية عابرة من الرئيس سعد الحريري، والأطراف السياسية المؤيدة، لا سيما الزعيم وليد جنبلاط ، بقدر ما كانت وليدة لحظة توافق وانسجام بين المجتمعين في مؤتمر فيينا في 12 تشرين الثاني الماضي، حول بنود خريطة الحل السياسي في سوريا، والحفاظ على الاستقرار الهش في لبنان، عبر تعزيز إمكانيات الجيش والأجهزة الأمنية في حربهما ضد الإرهاب، فضلاً عن دعم دور الدولة عبر إنهاء الشغور الرئاسي، وتفعيل المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها: تشكيل حكومة منسجمة ومنتجة، وإطلاق ورشة عمل في مجلس النواب.
التحرّك السريع لإنهاء الشغور الرئاسي، لم يكن استعجالاً من جانب الرئيس الحريري ومؤيديه في مسعاه، بقدر ما كان أيضاً سباقاً نحو الانتخابات الرئاسية، مع انتكاسة محتملة لبوادر التفاهمات الدولية، التي انطلقت من التقارب الحاصل في الملف السوري.
وجاءت مبادرة الحريري، بعد اتصالات ومشاورات، توّجت بلقائه الباريسي مع النائب سليمان فرنجية، لتجسّد الأجواء الإيجابية في لقاء فيينا، ولتترجم مفهوم «التسوية الرئاسية» إلى خطوات عملية، أولها: القبول برئيس من فريق 8 آذار! على اعتبار أن التسوية تتطلب تقديم تنازلات من الجانبين الآذاريين.
ردود الفعل الصاخبة التي أثارتها المبادرة الحريرية، لدى الحلفاء والخصوم، لم تحجب أهمية وشجاعة الخطوة التي أعلنها رئيس تيّار المستقبل، لكسر حالة الجمود السياسي، الذي أدى إلى تعطيل دور الدولة، ومؤسساتها الدستورية، وأدى إلى تفجير سلسلة من الأزمات، أفظعها، وأكثرها بشاعة، أزمة النفايات، التي ما زالت تُجرجر منذ خمسة أشهر، بسبب العجز الفاضح عن إيجاد الحلول العلمية والعملية اللازمة لها!
* * *
رغم أساليب المزايدات المعهودة، ومواقف التهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور، من القيادات المارونية المتضررة من وصول فرنجية إلى بعبدا، فإن الأنظار كانت متجهة دائماً إلى الخارج، لمتابعة مسار التفاهمات الهشة، ومدى قدرتها على مقاومة تداعيات أية انتكاسة مفاجئة، على التسوية الرئاسية!
الواقع أن الأطراف الداخلية ليست قادرة على تعطيل التسوية، والانتخابات الرئاسية، في حال استمرت التفاهمات الخارجية، وتعززت عوامل الثقة بين الجهات الدولية والإقليمية المعنية، وخاصة بين الرياض وطهران.
ولكن ما حصل على مدى الأسابيع الأربعة الماضية على الصعيد الإقليمي، وخاصة بالنسبة للحل السياسي في سوريا، عاكس رياح التسوية اللبنانية، التي أصبحت محاصرة بين الاعتراض المسيحي الداخلي، وانتكاسة التفاهمات الخارجية، بسبب استمرار الخلاف حول ترتيبات المرحلة الانتقالية في سوريا، ودور الرئيس السوري بشار الأسد فيها.
في مؤتمر فيينا الأخير، الذي تمّ التوصّل فيه إلى وضع خريطة إنهاء الحرب، بقي مصير الأسد في المرحلة الانتقالية، موضع خلاف بين مناصري الثورة، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، وبين مؤيدي النظام وخاصة روسيا وإيران.
لم يعد خافياً أن الرياض بقيت على موقفها المطالب برحيل الأسد مع بداية تطبيق الحل السياسي في المرحلة الانتقالية، فيما تصرّ موسكو وطهران على بقاء الأسد طوال المرحلة الانتقالية، مع الاحتفاظ بإمكانية ترشحه لأول انتخابات رئاسية، بعد إقرار الدستور العتيد.
وأدت المواقف المعلنة بين الطرفين إلى عودة التوتر على مسار التسوية السورية، بما في ذلك تصاعد الحملات الإعلامية، وتعثر الإجراءات التمهيدية لانعقاد جولة مفاوضات جديدة بين المعارضة السورية والنظام.
ورغم أن السعودية حرصت على تنفيذ التزاماتها وفق تفاهمات فيينا، وخاصة بالنسبة لتشجيع اللبنانيين على إنهاء الشغور الرئاسي، وتنظيم مؤتمر للمعارضة السورية يجمع مختلف الأطراف السياسية والفصائل المسلحة، غير المتورطة بأعمال إرهابية، إلا أن الطرف الآخر نكث بوعوده، ولم يلتزم بما تمّ التوافق عليه في العاصمة النمساوية وظهر ذلك جلياً في حدثين بارزين:
الأوّل: التسوية الرئاسية في لبنان: حيث أصيبت بعارض تجميد مفاجئ، بحجة ضرورة التريث لاستيعاب اعتراض القيادات المارونية المتضررة، لا سيما العماد عون، على حدّ ما طلب السيّد نصرالله من فرنجية خلال لقائهما الأخير أواسط الأسبوع الماضي!
وذلك خلافاً للجهود الجدّية التي كانت ناشطة لإنهاء الشغور الرئاسي قبل نهاية العام الحالي!
الثاني: مؤتمر المعارضة السورية في السعودية، الذي تعرض لوابل من التهجمات وحملات التشكيك من الجانب الإيراني، بحجة أنه لا يمثل كل المعارضة - كذا - وبالتالي رفض ورقة العمل الموحدة، ومبدأ الوفد المشترك للمفاوضات، وكل ما تمّ التوصل إليه في مؤتمر الرياض!
* * *
هل يعني كل ذلك أن التسوية طارت، وأن فرنجية فقد فرصة الوصول إلى بعبدا؟
من المبكر القول إن التسوية سقطت، وإن كانت تمر بمرحلة تجميد حصري، بانتظار معالجة الخلافات الطارئة على التفاهمات الخارجية.
وفي حال طالت فترة التجميد، تصبح التسوية في خطر حقيقي!