بات الحديث عن الضاحية الجنوبيّة لبيروت، إنمائيّاً واجتماعيّاً وبيئيّاً، مستهلكاً حدّ الملل. لكن بعد انتخابات بلديّة، مضى عليها نحو سَنة، هل مِن المعقول أنّ لا شيء (في العمق) تغيّر؟ طالما هكذا فما فائدة البلديّات؟ ترقيع؟ الجواب سهل على مَن عرِف، قديماً، أن مشكلة الضاحية تحتاج إلى ما هو “فوق” البلديّة. إنّها أزمة دولة. الضاحية، تلك المنطقة بمستقبلها المجهول، المرميّة عند عتبة المدينة، تلك المدينة التي تختنق بنفسها… في بلد معلّق على خشبة
«المحاسبة الحقيقيّة هي التي تحصل ابتداء مِن السنة الأولى لانتخاب المجلس البلدي وليس بعد انتهاء ولايته». هذا تصريح لمعن خليل، أطلقه قبل سَنة وشهر واحد، وذلك قبل نحو أسبوع مِن انتخابه رئيساً لبلديّة الغبيري. حسناً، لنبدأ.
هل أصبحت الغبيري أفضل؟ عندما نسأل عن الغبيري فالسؤال، ضمناً، عن الضاحية الجنوبيّة لبيروت. الغبيري الواجهة، البلديّة الأغنى ضمن اتحاد بلديّات الضاحية، والتي، مِن خلالها، يُمكن رصد أيّ متغيّرات، ابتداء مِن الذهنيّة الحاكمة وليس انتهاء بـ… “الحراسة والكناسة».
يُسجّل لخليل، كشخصيّة عامة على رأس إدارة محليّة، أنّه يستخدم اليوم مفردة “فشِلنا». صحيح أنّه لا يُعمّمها، ولا يتوقّع مِنه ذلك، إذ يُحدّدها بكذا بكذا، إنّما تبقى لافتة. إنّها ذهنيّة مختلفة. هل هذا يعني أنّه أفضل (عمليّاً) مِمن سبقه، أو مِن سواه عموماً؟ لا مكان للتصريحات الجميلة هنا، فضلاً عن النوايا، بل الحُكم للأرض. يقول خليل: “فشلنا في الإصلاح الإداري. لم نستطع رفع الغطاء عن البعض ضمن البلديّة. حاولنا أن نفتح باب الاستقالات لكن القانون لم يكن في صفّنا كما علمنا مِن وزارة الداخليّة. فشلنا في إعادة إقرار براءة الذمّة البلديّة (التي ألغيت عام 2004).
لدي حلم، وسوف أسعى نحوه، أن يُصبح هناك قطار يمر في مناطق الضاحية، مع مشروع نقل حضري
هذه مسألة برسم النوّاب. فشلنا مع وزارة الأشغال بإنارة بعض الطرقات العامّة. محافظ بيروت لم يعطنا الكهرباء أيضاً مِن شبكة بيروت للإنارة في الأماكن المشتركة بين نطاقنا ونطاق بلديّة بيروت. مِن تلك الأماكن، مثلاً، أنفاق شاتيلا والطيونة. فشلنا في إيجاد حلّ لمسألة مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين، التي نتحمّل كبلديّة العبء المالي بالكامل في رعايتها، مِن تمويلنا الخاص، علماً أنّ الكلّ يقول إنّ فلسطين هي قضيّة الأمّة لكن يبدو أنّها قضيّة الغبيري! فشلنا في تحريك ملف مشروع أليسار النائم. نتيجة لذلك ضاعت أملاك البلديّة هناك. فشلنا في إنشاء مدراس جديدة، كذلك في إنشاء رياض أطفال. فشلنا في الحصول على أيّ مساعدة أجنبيّة للاجئين السوريين، لأن الأمم المتحدة خرجت بنتيجة أنّ لا لاجئين هنا، وهذا غير صحيح. فتحنا مدارسنا للطلاب السوريين بتوقيت مسائي، ما جعل زحمة السير تتواصل، والآن فليفرح وزير التربيّة والجهات التي تقبض مساعدات خارجيّة باسم هذا الملف على حسابنا. فشلنا في تنظيف منطقة صبرا. جزء مِن تلك المنطقة ضمن نطاقنا والجزء الآخر ضمن نطاق بيروت. فشلنا في إنشاء جسرين مشاة على طريق المطار… لكن الخطّة مستمرة. فشلنا في تأمين المياه الكافية للناس. شركة الماء تعطينا عدد ساعات ضخ كما تعطي أي بلدة أخرى لساعات محدّدة. بلدة فيها 1000 شخص تأخذ 10 ساعات، فيما نحن، في الغبيري، حيث عدد القاطنين يزيد عن 200 ألف، نأخذ 10 ساعات أيضاً! لن ننتظر اشتداد موسم الصيف، بل مِن الآن نقول لا يوجد ماء”. ربّما لولا تعب الصيام لأكمل خليل سرد “الفشل”. كلّ هذا في الضاحية التي، منذ ما قبل الانتخابات البلديّة، هي محلّ شكّ في كونها قابلة للعيش “الطبيعي”. هذا الطبيعي هنا لا يزيد عن حاجات العيش الأوليّة، مِن ماء وكهرباء ومساحة وهواء. أصلاً، كلّ ساكن في الضاحية، اليوم، لا يحتاج مَن يُخبره أنّ الأمور ليست على ما يرام، إنّما، وهذا الأهم، السؤال عن مستقبل تلك المنطقة عمرانيّاً، بالمعنى العام، الذي بات غامضاً. اللافت أنّ لا أحد، مِن المعنيين، يملك خطّة لمواجهة ذلك المستقبل المجهول. رئيس اتحاد بلديّات الضاحية، محمد درغام، يُعرب عن قلقه مِن هذا السؤال الوجودي، قائلاً: “الضاحية تمتلئ. أنا بحاجة أن امتد إلى الخارج، ولكن أين نذهب؟ نعرف البلد وحساسيته الديموغرافيّة. هناك مَن لا يُرحّب بسكن الأغيار، مِن طوائف أخرى، هذه أزمة كبرى”. الحديث يدور عن بقعة جغرافيّة تقدّر بنحو 27 كلم يعيش عليها، وفق أقوال مسؤولين بلديين، نحو مليون إنسان! يُعدّد خليل انجازات تحقّقت، مثل استعادة بعض أملاك البلديّة، مِن منطقة “الغولف” تحديداً. أيضاً، سيكون في المنطقة مركز جديد للأمن العام. تم إنشاء “جزر حدائقيّة” عن بعض مفارق الطرق. حتماً خليل يعرف أن كلّ مَن في الغبيري، والضاحية عموماً، ربّما ما عادوا يُفكّرون في مساحات عامة أو حدائق أو ما شاكل. يُريدون مجرّد العيش. مجرّد الاستمرار. الأحلام تتضاءل مع الوقت. سؤال مستقبل الضاحيّة سيكون على مَن هم “فوق” البلديّات ورؤسائها أن يفكرّوا فيه. المحسوم أن الحكاية أكبر مِن بلديّة (أقلّه كما نعرف البلديّة في لبنان).
بلديّات الضاحية اليوم في يد حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحرّ. لم يستطع أيّ منافس لهم أن يخرق لوائحهم في انتخابات العام الفائت. واصف الحركة، أوّل الراسبين في انتخابات الغبيري، الذي واجه تحالف الأحزاب آنذاك بلائحة حصلت على نحو 25 في المئة مِن الأصوات، يُراقب اليوم عمل بلديّات المنطقة. عمّا قريب سيعقد مؤتمراً صحافيّاً لهذا الشأن. يقول مهاجماً: “أجروا بعض التحسينات الشكليّة. منعوا بعض البسطات والإكسبرسات واتصلوا بالناس لكي يأتوا ويسددوا الغرامات والرسوم. هم استمرار لمن كان قبلهم. قلت لهم وأكرر: اكشفوا ميزانية البلديات خلال العهود الثلاثة الماضية، وعندها نرى». الحركة آتٍ مِن وجهة ثقافيّة مختلفة، أقله خطابيّاً، إذ لا يُريد للعمل السياسي أن يختلط بالعمل البلدي. يتهم الموجودين في المسؤولية البلديّة الآن بـ«عدم وعي مفهوم البلديّة. أن تكون حزبيّاً في العمل هذا سيجعلك تحت سقف حزبك، وبالتالي ستضطر لمراعاة الكثير مِن الحسابات السياسية على حساب الإنماء وحساب أبناء المنطقة». هذه الفكرة نوقشت كثيراً في الماضي. هل حقاً يُمكن للسياسية أن تُعزل عن شيء، أيّ شيء؟ اليس الخلاف في التوجّهات الثقافيّة أولاً وأخيراً؟ الكلّ يموّه خطابه. هذا هو لبنان. بالنسبة للحركة فإن “العقليّة ذاتها ما زالت حاكمة. كان هناك 3 مدارس خاصة لكن أغلقت. عندما فكّروا بمدرسة رسميّة قرروا أن تكون في منطقة الرحاب، البعيدة عن قلب البلدة. المدارس ليست همهم. الوضع في برج البراجنة أصبح أسوأ مِن قبل. أحياء الباطنيّة و«تكساس” تزداد. المخدّرات والزعرنات تزداد. أين شرطة البلديّة التي زادوا عديدها؟ تبيّن أن هذه الزيادة هي لتوظيف المحظيين والمدعومين حزبيّاً. أجروا كبسة صحيّة واحدة، صوّرها، ثم اختفوا. هل أحدّثك عن الأفران وأيّ ماء تستخدم في إعداد الخبز؟». سيُطيل الحركة لائحة “التقويص” على بلديّات الضاحية. كلام يُكرّر منذ سنوات عن الصحة والبيئة والنفايات وغيره. يختم قائلاً: “قبل الانتخابات جرت عمليّة تخوين لنا في السياسة والوطنيّة. قلنا نحن لسنا معادين. بالعكس، الاختلاف يغنينا، لكنهم لا يريدون أن يفهموا هذا. نحاول دائماً ألا نجعل الاطراف السياسية الأخرى تستغلنا ضد القوى في منطقتنا، نحن خارج هذه اللعبة، ولكن على أحزاب المنطقة أن لا تخنقنا أيضاً!».
ماذا عن النفايات؟ هذه الأزمة الوطنيّة الكبرى! اتحاد بلديّات الضاحيّة أحد الجهات المتّهمة بتعويم مطمر “الكوستا برافا». ألم يكن هناك حلول أخرى؟ درغام، رئيس الاتحاد (الذين يضم الغبيري وحارة حريك وبرج البراجنة والليلكي والمريجة وتحويطة الغدير)، يُدرك أن هذا “غير جيّد، وهو على مدخل الضاحية، ورائحته تصل إلى المنطقة… ولكن أيّ بديل كان لدينا؟ هناك الآن خطّة لإنشاء معمل تفكك حراري لمعالجة النفايات». ماذا عن “الزعران»؟ يُجيب: “فلتدخل الدولة والقوى الأمنيّة. مللنا ونحن نُردّدها». ماذا عن الاكتظاظ والفوضى العمرانيّة؟ يقول: “لدينا نحو 4 عشوائيات. هذه مسؤولية الوزارات. تراكمت الأخطاء حتى وقعنا في العجز». الجيّد في درغام أنّه لا ينفي مسؤوليّة البلديّات أيضاً: “نحن لسنا آيات الله». يُضيف: “هناك تعديات، ونعم هناك البعض لم نستطع أن نواجهه. هل ندخل في مشكلة عشائريّة!». ماذا عن تعدّيات أصحاب مولّدات الكهرباء؟ يوضح: “عالجنا الكثير مِنها. هناك البعض لم نقدر عليه. على القضاء أن يُفعّل محاضر الضبط وأن لا تُلغى نتيجة تدخلات». ماذا عن الحفريات الدائمة التي جعلت الناس يصرخون؟ يشرح: “حجم الأشغال اليوم في الضاحية يبلغ 82 مليون دولار. على الناس أن يتفهموا هذا. طبعاً لا أخفيك عن عدم التنسيق والفساد الذي يؤدي إلى حفر طريق مرتين وثلاثة بدل مرة واحدة… هذه عند الوزارات ومجلس الإنماء والأعمار». لائحة إيضاحات وشروحات درغام تطول وتتشابه. يختم: “لدي حلم، وسوف أسعى نحوه، أن يُصبح هناك قطار يمر في مناطق الضاحية، مع مشروع نقل حضري». قطار في الضاحية! درغام يحلم: “نعم، مِن حقّي أن أحلم». لنحلم معه، ولكن، تحاشياً للصدمات، علينا ألا ننسى أن الأحلام تأتي أحياناً على شكل كوابيس.