يشكّل الإنسان جوهر الدولة وحامل مشاريعها الاقتصادية والسياسية. هذا في حال كانت السلطة تحقق العدالة الاجتماعية والحريات السياسية وتضمن حقوق المواطنة. أما تغييب الإنسان وتهميشه وإفقاره والتحكم بقوته وحياته اليومية، فإنه يشكّل أحد مداخل تحلل الدولة والمجتمع والسلطة. كذلك فإن انتقال الاقتصاديات العربية إلى النمط الرأسمالي الكولونيالي بقيادة أنظمة مهامها المحافظة على أسباب التخلف، قد أسهم في تسهيل احتلال العصبيات المحمّلة بأعباء التاريخ وتناقضاته للحقل السياسي والاجتماعي.
ولم يكن مفاجئاً لمن كان يرصد المتغيرات التي كانت تعتل داخل بنية الدول العربية ومكوناتها الاجتماعية أن تدخل المجتمعات العربية وسلطاتها السياسية في طور التحلل والانقسام العمودي والأفقي. فالسلطات السياسية كانت عاجزة بحكم طبيعتها وتركيبتها البنيوية عن إنجاز مشروع اقتصادي تنموي يحقق العدالة الاجتماعية ويضمن التوزيع العادل للثروة. وأيضاً كانت عاجزة عن وضع أسس نظام سياسي ديمقراطي يضمن حقوق المواطنة والمشاركة السياسية ووحدة الدولة وتماسكها الاجتماعي.
ومن المعلوم أن أكثر ما تخشاه تلك الحكومات هو الحراك الشعبي، كونها تفتقد إلى الديمقراطية وتعاديها، داخل حدودها السياسية وخارجها، وتفرض على مجتمعاتها التخلف والإفقار والتهميش. إذ إن بنية الدولة فيها، تتصف بالهشاشة التي تجعلها سريعة التداعي أمام أي حراك سياسي شعبي. لذا نراها تدفع عن ذاتها الانهيار من خلال عملها على إعادة تشكيل الأنظمة السياسية وفق أشكال تضمن لها استمرار سلطتها السياسية وتسهيل مهامها في نهب المال العام ومقدرات الدولة.
وهذه المشاريع تندرج في الإطار الوظيفي للمشروع الرأسمالي الغربي. وما يجري في البلدان العربية حالياً، يعبّر عما تخطط له الحكومات الغربية لدول المنطقة العربية ومجتمعاتها. وهذا يندرج في سياق استراتيجي يهدف إلى إعادة تشكيل وتوضيب وصياغة المنطقة والمجتمع والغاء التاريخ والعقل والوعي والادراك العربي. ويتجلى هذا من خلال تهديم التاريخ وطمس معالمه الحضارية، واغتيال الذاكرة والتراث. وإضافة إلى الأسباب التاريخية الكامنة خلف هذه المشاريع والتي يمكن اختصارها في: تكثيف نهب الموارد الوطنية للدول العربية، وتعميق درجة ومستوى ارتباط وتبعية البنى والسياسات الاقتصادية والأنظمة السياسية، وفرض سياسات التكييف الهيكلي، وإعادة إنتاج علاقات التخلف الدائم لدى الشعوب.
فإن تجاوز الدول الغربية لأزمتها البنيوية، السياسية والاقتصادية يبقى الهدف الأساس، فالسياسات والآليات الرأسمالية ـ الإمبريالية، سببها التناقض البنيوي الذي يعاني منه رأس المال الوافر لدى الحكام وغيابه عن أية مشاريع انمائية للوطن والمواطن. وهذا يعني أننا على عتبة تحولات إقليمية محمولة على مشروع تهديم الدول الكيانية القائمة، وتوظيّف التنوع الطائفي والعقائدي لتعميق التبعية والتخلف. وهذا يتقاطع مع فشل النظام العربي في إنجاز المشروع القومي العربي الديمقراطي، لإعادة إنتاج ذاته المأزومة، كنظام رأسمالي طرف يعزّز التموضعات الطائفية والأقليات العرقية والإثنية.
فانسداد آفاق النظام العربي الليبرالي وفشل البرجوازية والطبقة الوسطى في إنجاز مشروع التحديث العربي، ساهما في إعادة إنتاج أشكال سلبية في العلاقات الاجتماعية والانتماءات الوطنية، ويهدّدان بظهور أشكال من الكيانات الدينية والمذهبية في إطار هويات سياسية تُعيد الاعتبار إلى الثقافة الدينية كإيديولوجية سياسية. وهذا يعيد الاعتبار إلى ضرورة تأسيس مشروع قومي عربي ديمقراطي، والاستجابة إلى شروط الحداثة ومتطلبات بناء السوق القومية العربية وتمكين الديمقراطية السياسية وحقوق المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي منطقتنا المدفوعة بقوة نحو الفوضى والتشظي السياسي والديني والأخلاقي، تحديداً بعدما أتيح لـ «داعش» التمدد بغطاء إقليمي ودولي في أكثر من دولة، أصبحت مجتمعاتنا مهددة بالتفكيك والتشرذم والاقتتال بأدوات التخلف القهري. لقد كشف التمدد الداعشي وباقي المجموعات الجهادية التكفيرية عن عمق الخلل الموجود في بنية السلطة والبنى الاجتماعية. ويُعتبر الانغلاق على الذات قاتلاً للمشاريع الوطنية، وصراع المجموعات الجهادية الذي سرعان ما ينتقل تأثيره إلى القاع الاجتماعي، من ملامح التدمير الذاتي.
إن إعلان «الخلافة الإسلامية» يدلل على أن الواقع في العالم العربي وصل إلى العدمية والعبثية وهما تهددان بإغلاق منافذ ومسالك التحديث والتطوير كافة التي تقود إلى بناء الدولة الأمة، وتُجهض دور المثقف العلماني العقلاني والمفكر الإسلامي المتنور، وتعيد المجتمع إلى عصور التخلف والانحطاط. وفي الوقت ذاته فإنها تُشكّل المدخل إلى تحلل الدولة الكيانية، والسلطة التي تؤمن باللامركزية السياسية والادارية. وتكشف تلك المشاريع المدفوعة من الحكام بصورتهم الدينية وأشباههم، إضافة إلى كونهم أدوات وظيفية غربية وإقليمية, فإنهم نتاج واقع عربي مأزوم، وتجسيد حقيقي لفشل الدولة في انجاز مشروعها التنموي والحداثة الديمقراطية. فالمواطن العربي يتعرض إلى اغتيال ممنهج للفكر والمنطق والثقافة والقيم والتاريخ. وهذا يتم في سياق إعادة كتابة التاريخ من جديد بأشباه الناس وليضحى المواطن انساناً قد شوهته الديكتاتوريات وطحنته الطائفية واغتاله التخلف والعصبية وكلها برامج يتم رسمها وإدارتها من قبل الغرب ولمصلحة الدولة العبرية.