أحببت السودان والسودانيين منذ زيارتي الأولى صيف ١٩٧٧. كنت متوجهاً إلى أريتريا (مع الزميل والصديق ميشال نوفل) مع الثوار بدعوة من أحد أبرز قادتها عثمان صالح السبي الذي نحر ليتم تمرير مشروع تسليم البلاد بعد الانفصال عن اثيوبيا الى أسياس أفورقي الذي كان قد شبك علاقة قوية مع اسرائيل لدى معالجته من الملاريا.
من الخرطوم توجهنا الى كسلا على الحدود مع أريتريا في “التاكسي الجوي ” وهي طائرة لخمسة أشخاص مع الطيار … من الجو شاهدت الثروات الزراعية الهائلة التي معظمها غير مستغل. مرافقنا الاريتري قال لنا: “هذه أغنى بلاد الارض زراعياً ومساحتها حوالي ١٧٠ مليون هكتار وثروة حيوانية تصل الى ١٢٠ مليون رأس بقر وغير ذلك. رغم ذلك، يعاني السودانيون من الفقر والسير على حافة الجوع. حرب انفصال الجنوب عن الشمال أرهقت الجميع . توجد أسباب داخلية للحرب ولكن ابحث ايضاً عن الإنكليز والكنائس التي نصرت حوالي عشرة بالمئة وتمول الحرب حالياً لأسباب لا علاقة لها بالدين”.
بعد ذلك اصبحت زياراتي متواصلة حتى عام ١٩٨٩، حيث كنت أشارك في انتاج ريبورتاج تلفزيوني زرت خلاله جوبا في أقصى الجنوب، واطلعت ميدانياً على الأوضاع وعرفت ان الإنكليز فرضوا الفيزا على السودانيين للتنقل بين الشمال والجنوب ولتعميق التمايز ونشر روح الانفصال الذي قبل بِه عمر البشير لإنقاذ نظامه … وقد شاءت الصدفة ان أكون في الخرطوم فجر الانقلاب الذي قاده عمر البشير وحسن الترابي حيث انفصلا بعد ذلك ليبقى البشير حتى اليوم وليغرق السودان في كارثة يعيش السودانيون بسببها في بحر من الجوع .
اذكر ايضاً انني بعد ان نجحت في فضح بيع الماريشال جعفر النميري “الفلاشا” الى اسرائيل ، اقدم الاستاذ نبيل خوري رئيس تحرير مجلة “المستقبل” بكل ما يملك من حسٍ مهني رفيع، ومتابعة صحفية عميقة، والتزام سياسي صلب “في الاندفاع في كتابة تحقيق شاركته فيه عنوانه: “سيادة الماريشال جعفر النميري لماذا لا تستقيل”. يومها طبع المقال بالآلاف ووزّع في شوارع الخرطوم وكأنه منشور سياسي، عشت تفاعلاته عندما حضرت استلام الماريشال سوار الذهب السلطة وهو بلا شك حالة نادرة بين كل العسكر، اذ انه وعدني خلال مقابلتي معه انه سيسلم السلطة بعد عام ووفى بوعده، وليته لم يفعل ذلك لانه لم يكن جنرالا مثل عمر البشير قد اجهز على السودان كما اليوم …
حالياً يعيش السودان على وقع ثورة اكثر مما هي انتفاضة… ابرز شعارات المتظاهرين المسالمين الذين سقط منهم بالرصاص اكثر من عشرين متظاهراً، تؤكد هذا التوجه: “نحلم بسودان جميل ليس له مثيل ولا بديل…ثورتنا ليست للسكر والبنزين، ثورتنا ضد تجار الدين …حرية .سلام…عدالة”. يحاول البشير ومن معه دفع الشارع السوداني المسالم نحو “السورنة” لينجو ولو فوق بحر من الدماء كما حصل حتى الآن مع الرئيس بشار الاسد. لكن كما يبدو ان وضع منطقة القرن الأفريقي يعمل ضده وقد لا يطول الوضع حتى تجبره الطغوط على المغادرة قبل ان يدفع ثمن تحويل السودان من حالة جميلة للتعددية والمسالمة، الى بلد يعاني في يومياته من ضغوط الاحادية الفكرية وممارسات احتكار السلطة والانهيار الاقتصادي حتى الانفجار في الشارع.
موقع السودان الفريد استراتيجياً وتصاعد اهمية إمساكه بـ “مفتاح” البحر الأحمر الذي تسعى كل الدول الى الامساك بجزء منه تدفع نحو الإسراع في فرض الاستقرار فيه. اذ اصبح معروفاً ان تزاحماً يجري عليه بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية من جهة ودول اقليمية معنية مباشرة بأمن البحر الأحمر مندفعة نحو الانخراط للحصول على موقع لها. كل هذا في وقت اصبحت فيه دجيبوتي مساحة مفتوحة لنشر القواعد العسكرية من كل لون وهوية.
الى جانب الاهتمام الأجنبي فإن دول القرن الأفريقي استفاقت على غناها الاقتصادي زائد اهمية موقعها الجيواستراتيجي، فبدأت تعمل على المصالحات وكان ابرزها بين اثيوبيا واريتريا. وآخراً وليس اخيراً الاستعداد لعقد قمة مهمة جداً بعنوان “القمة التأسيسية للتجمع الاقتصادي لدول القرن الأفريقي” والذي يضم كلاً من: السودان واثيوبيا والصومال وأريتريا ودجيبوتي … مثل هذا المؤتمر التأسيسي يتطلّب الأمن والاستقرار لينجح لاحقاً فيريح شعوب المنطقة ويريح العالم.
لا شك ان سباقاً مع الوقت والطموحات يجري حالياً في منطقة القرن الأفريقي وخصوصاً في السودان. أمنية واحدة ان لا تطول محنة السودانيين الذين لما يتمتعون به من طيبة يستحقون حياة جميلة بعيداً عن العسكر.