لم يكن متصوّراً أن يشارك الرئيس السوداني في القمة العربية – الأوروبية الأولى في شرم الشيخ، ولو فعل لاعتذر معظم الزعماء الاوروبيين عن الحضور. لا علاقة لذلك بالأزمة المشتعلة حالياً في السودان، بل لأن عشرة أعوام مضت على المذكرة التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية للقبض على البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب بينها جرائم إبادة جماعية في اقليم دارفور. صحيح أن غالبية دول الاتحاد الافريقي والجامعة العربية أعضاء في هذه المحكمة إلا أنها تتجاهل قرارها، إمّا لأن الأفارقة يرون أن المحكمة متخصصة في استهدافهم، أو لمبررات مفهومة بينها سياسة الكيل بمكيالين واستثناء الاميركيين والأوروبيين إسرائيل من أي محاسبة على جرائمها. هذه الملاحقة الدولية لا تغيب عن بال البشير وباتت من أسباب تشبّثه بالسلطة، إذ يعتقد أنه سيستطيع الإفلات منها طالما أنه في الرئاسة أمّا إذا ابتعد أو أُبعد عن المنصب فسيجد نفسه وراء القضبان.
ليس واضحاً بعد ما إذا كانت إجراءات “شراء الوقت” التي أعلنها أخيراً جاءت بنتيجة نقاش معمّق بينه وبين قياداته العسكرية، ولا إذا كانت لدى القوات المسلحة القدرة على توفير ضمانات مستقبلية وحماية شخصية للبشير في حال اضطرّ للتنحّي أو اضطرّت لتنحيته. أما معارضوه فإن “مذكرة الرحيل” (21.92.2019) التي قدّموها إليه توضح موقفهم من دون أي لبس، إذ تحمّله وآخرين مسؤولية “الحروب الأهلية التي ارتقت الى أعظم جرائم القرن بالإبادة الجماعية والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي، لا سيما في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وأدّت الى دمار القرى وإجبار أهلها على الإقامة في معسكرات نازحين ولاجئين تفتقر لأبسط حقوق المواطنة”، وتخلص في هذا المجال الى العزم على “تقديم كلّ من أجرم الى محاكمة عادلة وإجراء عدالة انتقالية لبيان الحقيقة ومساءلة الجناة، والالتزام بالقرارات الدولية”.
قُرئت الإجراءات الأخيرة على نطاق واسع، من فرض حال الطوارئ الى استبدال النائب الأول والحكومة وحكام الأقاليم بوجوه أخرى، الى تنحّي البشير عن رئاسة الحزب الحاكم، على أنها من جهة انقلاب أبيض أداره البشير ليبقى في موقعه وخلط للأوراق خشية الانقلاب عليه من داخل نظامه، ومن جهة أخرى عودة الى الاحتماء بالجيش بعدما تبينت هشاشة الاحتماء بالغطاء الإسلامي. وتحت عنوان الدفاع عن الدولة ومنع انهيارها يدفع البشير بالجيش الى مواجهة الاحتجاجات الشعبية، غير آخذ في الاعتبار سلميّتها وطابعها المدني، بل لعل هذا أكثر ما يزعجه. أي أن البشير لم يستطع إيجاد وسيلة مختلفة عن تلك التي سبقه إليها معمر القذافي وبشار الأسد وعلي عبدالله صالح. فهو حاول مثلهم التذرّع بوجود “مؤامرة خارجية” و”مرتزقة” و”عملاء” و”مندسّين” وحين فشلت ادّعاءاته هذه راح يحاول رشوة المحتجّين بنا بلجان تحقيق ومبادرات حوار على أنها بمثابة تنازلات. لكنه أيقن أن المسألة داخلية جدّاً وليست لديه حلولٌ لها.
إذا كانت نقطة القوة في “ثورة ديسمبر” تكمن أولاً في شمولها كل قطاعات المجتمع، وثانياً في قيادتها المتمثّلة خصوصاً بالنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، وثالثاً في سلميّتها كدرس مستمدّ من تجارب أخرى في “الربيع العربي”… فمن الأرجح أن البشير ونظامه يستندان الى امتلاكهما القوة النارية وأجهزة القمع والبطش، ويمكنهما أن يستلهما تجربة الأسد والنظام السوري من دون الحاجة الى دولة خارجية، خصوصاً أن المواقف الدولية باتت تفضّل الأنظمة الموجودة، بكل سيئاتها، على المجازفة بالبدائل المجهولة، وفي نظرها أن تلك الأنظمة حقّقت استقراراً داخلياً ما لبثت ثورات الشعوب أن أطاحته. ليس فقط أن هذا الاستقرار كان ظاهرياً ومزيّفاً بل انه، في حال الأسد، لم تعد ممكنة استعادته مع دمار البلد وانهيار الاقتصاد وإفلاس الدولة. أما في حال السودان فقد انكشف الفشلان السياسي والاقتصادي ولم يعد النظام مقبولاً، إذ ليست لديه الوسائل ولا الموارد لوضع خطط عاجلة أو متوسطة المدى. حتى أن المساعدات الخارجية، مهما بلغ سخاؤها، لا تستطيع اصلاح الخلل، ثم أن المموّلين المعتادين يعلمون أن الفساد المستفحل والإنفاق على الماكينة الأمنية يستهلكان جلّ المساعدات.
معادلة القوة مقابل حراك سلمي والجيش فب مواجهة الشعب تنطوي على كل المخاطر، قد تبدو موقّتاً لمصلحة السلطة لكنها لن تلبث أن تنقلب عليها بدءاً بإسقاط القليل المتبقّي من “الشرعية” ومن ثمَّ بدفع البلد الى الفوضى. المعروف أن للجيش السوداني قبولاً وطنياً عاماً ويمكن الاعتماد عليه للحفاظ على مؤسسات الدولة، أما زجّه في معركة ضد الشعب من أجل انقاذ البشير فلا شك أنه توريط ومجازفة. نجح الشعب في بلورة نموذج متّزنٍ لثورته، وعرض خطة طريق للانتقال السياسي السلمي مطالباً بتغيير تُراعى فيه مبادئ السلام والحرية والعدالة. هذه ليست هبّة أخرى من الهبّات العديدة ضد هذا النظام، وقد عبّر العديد من القادة العسكريين عن اعترافهم بشمولها غالبية عظمى من فئات الشعب، وعن تفهّمهم لدوافعها بعيداً عن التخوين والتأثيم، لكن خطب البشير وأهداف خطّته أظهرت أنه يبحث فقط عن كسب جولة أخرى ضد الشعب تأميناً لديمومته في السلطة، ولأجل ذلك يعوّل على دور للجيش في كسر الحراك وإعادة الشعب الى قوقعة الصمت والخوف. وتشير قوائم المحظورات المعلنة لتطبيق حال الطوارئ الى تخطيط لحملات اعتقال واسعة النطاق بغية احتواء الاحتجاجات وخنقها، فالاجراءات المتوالية ليست ترتيباً للبيت الداخلي كما قيل بل ترتيباً لحكم عسكري بالحديد والنار.
في الشهر الثالث لـ “ثورة ديسمبر” يشرع البشير في العودة الى ما أتقنه دائماً، الانقلابية والبطش والهروب الى أمام، وكذلك في برهنة أن ثلاثة عقود في السلطة لم تعطه أي درس. لكن، ماذا عن الجيش نفسه، ألم يتعلّم من الحروب التي دفعه اليها البشير بكثير من التهوّر في معظم الأحيان. لم يغب عن بال قادة الثورة أن يكون النظام متجهاً الى العنف، إذ أنهوا “مذكرة الرحيل” كالآتي: “الخيار أمامكم هو الاستمرار في القمع الذي يجرّ التضييق والضغط الدولي، أو الامتثال لإرادة الشعب المشروعة لمولد نظام يعبر بالبلاد الى مرحلة تاريخية جديدة تحقّق السلام العادل الشامل والتحوّل الديموقراطي الكامل والتنمية العادلة اجتماعياً وجهوياً”. بين الخيارين لم يتردد البشير، واتجه نحو الغرق مستدرجاً معه الجيش، خصوصاً أن المذكرة نفسها دعته الى “التنحّي الآن وحقن دماء السودانيين والسودانيات، بل دعت القوات النظامية الى “الكفّ عن حماية نظام فقد مشروعيته وبانت عزلته”. كان في ذلك انذار فهمه البشير على طريقته، فسارع الى الانقلاب على نفسه ينفسه وإلى حركة تبديل للقيادات العسكرية لإجهاض أي انقلاب لإطاحته أو للتخلّص من أي ضابط ربما يعيد تجربة الراحل عبدالرحمن سوار الذهب.
* كاتب وصحافي لبناني.