سجّل مجلس القضاء الأعلى سابقة بإصدار بيانين متناقضين في أقلّ من ساعة. عقد المجلس اجتماعاً افتراضياً على تطبيق «واتساب». تداول أعضاؤه بإصدارِ بيانٍ للدفاع عن الإجراءات القضائية التي أدّت إلى توقيف وليام نون، شقيق أحد ضحايا انفجار مرفأ بيروت. صحّحوا البيان ونقّحوه وتوافقوا عليه قبل إصداره. مرّت ساعة ليتراجع بعدها رئيس المجلس غاسلاً يده من البيان في مسعى للتأجيج
تعيشُ العدلية أسوأ أيّامها. وتزيدها سوءاً قيادة صار مشكوكاً في أهليتها لإدارة الأمور. مجلس القضاء الأعلى، أحد أرفع السلطات في لبنان، منقسمٌ على نفسِه، ويَنسَحِبُ الانقسام الطائفي والسياسي على أعضائه الذين، مع بعض الاستثناءات، لا يضعون نُصب أعينهم تحقيق العدالة، بل إرضاء «ولاة الأمر». لن يُذكر لرئيس المجلس القاضي سهيل عبود سوى أنّه قاد العدليات إلى أسفلِ درك. فالرجل الطامح إلى الرئاسة محتار في كيفية إرضاء كل الجهات. يُحاول تدوير الزوايا ما استطاع إذا كان ذلك في مصلحته، وإلا فإلى التأجيج والتعطيل والتصعيد. وهذا ما حصل في قضية توقيف وليام نون قبل يومين.
إجراءات النيابة العامة الاستئنافية في بيروت التي قضت بتوقيف نون استنفرت الشارع استنكاراً. أخطأ نون، إنّما خطأ رد فعل السلطة القضائية كان أكبر بكثير. فأهالي الضحايا الذّين لجأوا إلى القضاء لتحصيل حقّهم، بعد نحو ثلاث سنوات على الجريمة، لم يعرفوا حقيقة ما حصل في الرابع من آب. القضاء نائم. وربّما رأى نون أنّ حجارته قد توقظه من سُباته. كما أنّ قرار المحامي العام زاهر حمادة كان ليكون صائباً – لا سيما أنّه قرار توقيف شخصٍ هدّد القضاء، ورمى مكتبه بالحجارة وكسر زجاج نوافذه، ثم حقّره بالاسم – حفاظاً على هيبة القضاء لو كانت هناك هيبة أصلاً، ولو كان الفاعل شخصاً آخر لا يُطالب بدمّ شقيقه الذي قضى مظلوماً في انفجارٍ لم يُعلن القضاء أسبابه بعد.
بالعودة إلى مسارِ ما حصل. لم يُرِد حمادة الرضوخ لضغط الشارع بإطلاق نون، في ظلّ الاستغلال السياسي والتأجيج الطائفي. واعتبر أنّ تركه يعني كسر القضاء في الشارع. لذا طلب تدخل مجلس القضاء الأعلى الذي عقد اجتماعاً افتراضياً على «مجموعة الواتساب» الخاص بالمجلس. (مع العلم أنّه ليس الاجتماع الافتراضي الأول. وليس البيان الإعلامي الأول الذي يُصاغ ويُعمّم عبر الواتساب).
حُرِّر البيان، ونُقِّح للوصول إلى صيغةٍ نهائية وافق عليها ستة أعضاء هم القضاة داني شبلي وحبيب مزهر وميراي حداد والياس ريشا وعفيف الحكيم وغسان عويدات. فيما امتنع عبود عن الموافقة، علماً أنه لم يكن موافقاً على فكرة البيان أصلاً. ووسط إصرار الأعضاء على إصداره، ماطل وحاول الإرجاء، مستمهلاً للتعديل، علماً أنه كان قد صاغ القسم الأول من البيان. صوّت الأعضاء الستة وأرسلوا البيان إلى الوكالة الوطنية على الشكل التالي: «إنّ مجلس القضاء الأعلى يستغرب ويستنكر التدخّل والتهجّم على عمل القضاة، ومؤخراً إجراءات النيابة العامة الاستئنافية في بيروت، من مرجعياتٍ يُفترض بها احترام عمل القاضي، الذي يحتكم إلى ضميره وعمله القانوني. كما يَرفض المجلس التعرّض والتطاول من أي جهةٍ كانت على القضاء، وكرامة القضاة في معرضِ ممارسة واجباتهم كسلطةٍ دستورية مستقلّة». وأشار البيان إلى أنّ «الغاية التي يسعى إليها أحد المواطنين، مهما كانت شريفة ومحقّة، لا تُبَرِر الوسيلة غير المشروعة والمعاقب عليها قانوناً. فالقضاء لم يكن يوماً، ولن يكون مكسر عصا لأحد».
لم تكد تمرّ ساعة حتى سرّب عبّود خبراً إلى محطة «Lbci» بأنّه غير موافق على بيان مجلس القضاء الأعلى الذي أتى مُتضامناً مع القاضي حماده. وأبلغ عبود الأعضاء الذين راجعوه بأنه كان يريد إضافة جملة أخيرة مع بعض التعديلات. كلام عبود المسرّب جاء متناقضاً مع ما حصل فعلاً في الاجتماع الافتراضي، إذ نشرت الوسيلة الإعلامية نفسها تسريبات عن مصادر قضائية رفيعة مفادها أنّ «مجلس القضاء الأعلى أصدر بيانه الأخير وفقاً للأصول بأكثرية ستة أصوات، وامتناع صوت واحد. وفي مطلق الأحوال، فإنّ المجلس مؤسّسة تعمل وفقاً لأحكامِ القانون، ولا يختصرها شخص واحد»، بحسب مصادر الأعضاء الذّين صوتوا لمصلحة البيان. هنا اضطّر عبود ليُلحِق تسريباته ببيانٍ ثانٍ بهدف التوضيح، حيث قال فيه: «تداولت وسائل الإعلام بصدور بيانٍ عن مجلس القضاء الأعلى بتاريخ اليوم (السبت). إن رئيس مجلس القضاء الأعلى يوضح، أن أيّ بيانٍ لم يصدر عن المجلس وفق الأصول القانونية المعتمدة. وإنّما تمّ التداول بشأن إصدارِ بيانٍ متعلّق بما آلت إليه الأمور في المرحلة الأخيرة، ولم يُصَر إلى التوافق على مضمونِهِ، الذي كان ما زال قيد المناقشة. وإنّ ما وصل إلى وسائل الإعلام، إنّما هو مشروع بيانٍ لم يحظَ بالموافقةِ المُفترضة لإصداره، فاقتضى التوضيح».
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الانشقاق يتجدّد في كلِ مرّة بشكلٍ مُختلف. ففي المرّة الماضية دعا أربعة أعضاءٍ من المجلس إلى اجتماع، لكنّ عبود تدخّل لعدمِ تأمين النصاب وتعطيل الجلسة. أما ما يتسبب بالشلل الحاصل فيرتبط بملف انفجار مرفأ بيروت. إذ تكشف المصادر أنّ هناك قناعة لدى معظم أعضاء مجلس القضاء الأعلى والجسم القضائي بأنّه من الظلم الاستمرار في إبقاء الموقوفين في ملف المرفأ قيد التوقيف بعد دخول توقيفهم السنة الثالثة بينما الإجراءات القضائية معطلة. وبحسب المصادر القضائية، فإن مطلب السفيرة الأميركية دوروثي شيا بإطلاق سراح الموقوف زياد العوف، توسّع للمطالبة بإطلاق البقية. غير أنّ عبود يقف حجر عثرة معترضاً على إطلاق سراحهم لاعتباره أنّ إخلاء سبيل الموقوفين يعني دفن الملف، بغض النظر عن الظلم الواقع بحقّهم. كما أن عبود يمارس كل هذه العرقلة في إطار السعي لإعادة الملف إلى المحقق العدلي طارق البيطار لمعاودة السير بالإجراءات.