يخشى كثيرون أن يقولوا الحقيقة، وهي أنّ التدابير التي يتّخذها لبنان أو سواه لمنع «داعش» من تنفيذ عمليات إرهابية ليست كفيلة بتحقيق هذا الهدف. فالتدابير قد تؤخِّر عمليات أو تعطِّل أخرى، ولكن، يصعب كثيراً تعطيل العمليات كلياً، إذا اتّخذت «داعش»- أو الذين يديرونها- قراراً بتنفيذها في لحظة معينة، وإذا دفعت بانتحاريّيها إلى الميدان. وهنا مأزق الدول في مواجهة العصابات المنظّمة.
يكفي أنّ تخطط «داعش» لبضع عمليات متزامنة في بلدٍ ما، تتوزّع في مدن ومناطق مختلفة، وتدفع بانتحارييها إلى التنفيذ، لتنجح في تسديد ضربتها. فإذا تمكّنت أجهزة الأمن من إحباط عملية أو اثنتين أو أكثر، يبقى المجال مُتاحاً لنجاح عملية انتحارية على الأقل. وهي تكون كافية لإيصال الرسالة الموجعة.
فربما تكون «داعش» قد حاولت تفجير طائرات روسية عدة، تزامناً مع ضرب الطائرة المنكوبة فوق سيناء، وفشلت. ولكنها قد تفاجِئ الجميع بتفجيرات أخرى تستهدف الروس، بطائراتها المدنية أو سوى ذلك. وهذه الاحتمالات تنطبق أيضاً على مخططات «داعش» في فرنسا بعد هجمات باريس.
المحلِّلون يرون علامة مقلقة في التزامن الحاصل بين عمليات «داعش» الأخيرة في مصر (الطائرة الروسية) ولبنان (عملية برج البراجنة) وفرنسا (ضربات باريس)، حيث استطاع التنظيم الإرهابي أن يوقع ما مجموعه 500 قتيل… و400 جريح، أيْ ما يمكن اعتباره 11 أيلول مصغَّرة.
فهذا التزامن يعني أنّ «داعش» تمتلك القدرات على تنفيذ العمليات في مناطق مختلفة من العالم عندما تتّخذ قراراً بذلك. وهذا يؤشّر إلى أنّ التدابير التي تتّخذها الأجهزة الأمنية في البلدان الثلاثة ليست هي التي تكفل تعطيل العمليات الإرهابية.
وفي تقدير الخبراء في شؤون الأمن والإرهاب أنّ عجز الأجهزة الأمنية في هذه البلدان عن تحقيق المناعة الكاملة ضدّ الإرهاب لا ينتقص من جدارتها، وهو بديهي. فحتى الولايات المتحدة، بما تملك من طاقات استخبارية هائلة، لم تستطع منع «القاعدة» من تنفيذ عملياتها المثيرة في 11 أيلول 2001، والتي استطاعت خلالها بلوغ البنتاغون. فالحرب مع الإرهاب صعبة، ولاسيما إذا كان الانتحاريون إحدى أدواتها.
وعلى مدى الأشهر الأخيرة، عمدت «داعش» إلى تنفيذ عمليات متفرّقة في أوروبا، وربما في تركيا، ودول عربية كليبيا واليمن ومصر والكويت، في موازاة الحرب التي تخوضها على ساحتها الأساسية في سوريا والعراق. ولكن، يبدو أنها لم تكن في صدد تنفيذ خطة واسعة، وفي بلدان مختلفة، كما تفعل اليوم.
ويقول الخبراء، يجب الاعتراف بأنّ «داعش» تمتلك هامشاً واسعاً من الحركة تلجأ إليه عند الحاجة. ففي لبنان مثلاً، كان التنظيم نفَّذ سلسلة عمليات انتحارية موجعة في الضاحية الجنوبية والهرمل في العامين 2013 و2014. ومع تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام وتولّي «المستقبل» وزارتَي الداخلية والعدل، توقفت هذه العمليات.
وعلى مدى نحو عام ونصف العام، عكفت الأجهزة الأمنية على رصد الخلايا الإرهابية وتمكنت من القبض على العديد من الرؤوس المشغِّلة، وأعلنت أنها عطَّلت عمليات تفجير واعتداءات عدة كانت في صدد التنفيذ، وكان آخرها في طرابلس قبل أيام.
وحتى عملية برج البراجنة كان مقرَّراً لها أن تستهدف مستشفى الرسول الأعظم، كما قال وزير الداخلية نهاد المشنوق، وبـ5 انتحاريين. فالتدابير الحازمة في منطقة موضوعة تحت المراقبة الشديدة عدَّلت في العملية حجماً ومضموناً، ولكن لم تعطِّلها تماماً.
والسؤال الذي يطرحه كثيرون هو: هل كانت قدرة «داعش» على ارتكاب عمليات إرهابية قد تعطَّلت خلال الأشهر الأخيرة، أم إن معطيات معيّنة دفعتها إلى وقف نشاطها الإرهابي، وما هي؟ واليوم، هل تبدّلت هذه المعطيات لتعود «داعش» إلى تفجيراتها الانتحارية؟
هذا السؤال خطر جداً لأنه ينطوي على احتمال أن يكون «هدوء» «داعش» الانتحاري ناتجاً عن مقايضات وتفاهمات سرّية تعقدها مع قوى إقليمية معيّنة. وليس خافياً أنّ التنظيم لم يولد من عدم، وأنه يحظى بمصادر تمويل وتسليح وتغطية.
ما الذي تغيَّر اليوم لتعود «داعش» إلى نشاطها الإرهابي؟
الاحتمالاتُ كثيرة. ولكنها ربما تلتقي على واحد هو الأرجح: التنظيم يريد تذكير الجميع في فيينا بأنه هو الأقوى، وهو المُمسك في سوريا بأكبر مساحة من الأرض، مفتوحة على العراق. وهو الأقدر على الضرب أينما كان، وعلى اللعب بلبنان من خلال خلاياه في أوساط لبنانية، وفي المخيمات الفلسطينية، وبين اللاجئين السوريين.
والشهر الفائت، اعترف الشقيقان جهاد وزياد عكوش، القياديان في «داعش» في عين الحلوة، اللذان أوقفهما الأمن العام، بأنّ التنظيم يخطط لعمليات تفجير في الضاحية خلال عاشوراء وعمليات اغتيال في المخيم وصيدا وسواهما.
إذاً، عندما تعمد منظمات إرهابية إلى تجميد عملياتها، يكون الأمر شبيهاً بالقنبلة الموقوتة التي لا يعني عدم انفجارها أنها معطَّلة. وهذا ينطبق على لبنان، كما على مصر وفرنسا وروسيا وأيّ بلدٍ تهدّده «داعش».
لكن يجدر التفكير عميقاً في السؤال الآتي: هل إنّ «داعش» متفلّتة تماماً أم هي تنسِّق نشاطها مع قوى إقليمية أو دولية تتعاطف معها سرّاً؟
على الأقل، هناك قوى حريصة على أن تستمرّ «داعش» على قيد الحياة.
وأساساً، ما مِن عاقل يصدِّق أنّ «داعش» مجرد «فورة». فهي اجتاحت مساحات واسعة من سوريا والعراق، من دون مقاومة، وحصلت على تمويلها وتسليحها في شكل مذهل. والذين يشترون منها النفط والغاز، ولو بالسوق السوداء، يعرفون ما يفعلون.
وثمّة سؤال خبيث هو: هل القوى التي تدعم «داعش» أو تغطّيها أو تمنع ضربها هي المستفيدة من عملياتها الإرهابية اليوم، أو هي التي تقف وراءها، أو تسكت عليها ضمناً، بهدف تحقيق مكاسب في لحظة الجلوس على الطاولة؟
ينبغي أولاً تحديد مَن هي هذه القوى:
1- ثمّة كلام كثير على أنّ قطر وتركيا، وقبلهما دول عربية كبرى، دعمت «داعش» كسبيل وحيد لضرب النظام في سوريا بعد فشل المعارضة الأخرى.
2- تقول المعارضة السورية المعتدلة (الجيش السوري الحرّ) وتحالف التنظيمات القريبة من «النصرة» (القاعدة في بلاد الشام) إنّ «داعش» صنيعة إيران والنظام، وإنّ روسيا تضرب المعارضة لكنها لا تمسّ بـ»داعش»، وإنّ هذا التنظيم يتبادل مع النظام المواقع العسكرية والمناطق على طريقة التسليم والتسلُّم، كما جرى أخيراً في مطار كويرس.
3- خلافاً لذلك، قال الرئيس بشّار الأسد قبل يومين، ومعه السيد حسن نصرالله، إنّ الغربيين هم الذين ربّوا «وحش» «داعش» في أحضانهم… فارتدّ إليهم ليأكلهم!
وإزاءَ هذه التناقضات، يصعب فَهْمُ تركيبة استخبارية- عسكرية- دينية كـ»داعش». والمقولات الثلاث المتناقضة يبدو فيها شيء من المنطق. وعلى الأرجح هي صحيحة في جانب منها: «داعش»، وريثة «القاعدة» التي خلقها الأميركيون والغرب في أفغانستان لضرب الاتحاد السوفياتي. ومع ضرب الشيوعية، جرى ضرب العلمانية في الشرق الأوسط لمصلحة التيارات الدينية المتطرّفة. وكيف لواشنطن اليوم أن تبحث عن الحداثة والعلمنة في «الربيع العربي»، وهي التي قتلتهما بيدها؟
وفي الموازاة، باتت «داعش» أداة يستخدمها المحتاجون إليها في سوريا جميعاً: النظام والمحور الداعم له، وكذلك المحور الإقليمي الذي يقاتله.
وعلى الأرجح، إنّ «داعش»- في العمق- هي الأداة التي يُراد بها إيصال الشرق الأوسط إلى الشرذمة والرجعية والتقاتل الذي لا ينتهي بين جماعات لا تستطيع الحصول حتى على طعام… وهذا تماماً هو الهدف الإسرائيلي التاريخي.
لقد أصدر باتريك سيل، في العام 1992، كتاباً عن القيادي في حركة «فتح» صبري البنّا المعروف بـ»أبو نضال» يحمل عنوان: «أبو نضال، بندقية برسم الإيجار». ويروي الكتاب كيف تكفّل الرجل بتصفية العديد من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية.
هذا العنوان ينطبق على «داعش»: « داعش»، إنتحاريون برسم الإيجار».
إذاً، فلتحيَ عروبة «أبو نضال». وليحيَ إسلام «داعش».