Site icon IMLebanon

انتحار الدولة الأمنية المشرقية

 

لا داعي للوقوف عند موضوعات الحياة السياسية اليومية اللبنانية، لأنّها في عمومها إما تنتهي اليوم أو في اليوم التالي، إذ أنّ الفراغ الحقيقي الذي يعيشه لبنان ليس في الرئاسة بل في السياسة وأدواتها ووظائفها بما هي صناعة الواقع للإنسان. ولا يستطيع أحد الآن تحديد وظيفة لبنان الحالية، باستثناء كونه حديقة خلفية للنزاعات في المنطقة.

بعد اتفاق الطائف سار لبنان على سكّتين الأولى تتعلّق بالوظيفة القديمة وهي الدولة الأمنية السياسية التي كانت السبب في الحرب الأهلية وقدوم الفلسطيني ثم السوري الى لبنان ثم الاحتلال الاسرائيلي. وبقي السوري متمسكاً بأدوات الدولة الأمنية السياسية والتي تتمثل بوزارتيّ الدفاع والداخلية مع المؤسسات العسكرية من قيادة الجيش إلى القوى الأمنية، أمّا الادوات السياسة فكانت السلطة التشريعية ووزارة الخارجية.

 السكة الثانية كانت تتعلق بالدولة الاقتصادية الاجتماعية الحديثة، وقد تُركت هذه المهمة الى رئاسة الحكومة لكي تنهض بالبلد وتعيد إعماره وتستقدم الرساميل والاستثمارات لكي تستوعب النقمة الاجتماعية بعد الحرب والدمار والاحتلال. وكانت أدوات الدولة الاقتصادية الاجتماعية الوزرات الخدماتية والقطاع الخاص والمصارف والمهن الحرة وووو، والتي لم تكن تلقى اهتماما من أدوات الدولة الأمنية السياسية إذ كانت تعتقد أنّها تمتلك كل أسباب القوة وأدواتها القمعية.

بعد العام ٢٠٠٠ وتحرير الجنوب بدأت أسباب الدولة الأمنية تهتزّ لأنّها فقدت المبرر الأساس لوجودها، وهو العدوّ الإسرائيلي. وصدر نداء المطارنة الموارنة في أيلول 2000 ومعه الانتخابات النيابية التي أظهرت ميلاً عارماً باتجاه الدولة الاقتصادية الاجتماعية ونجاحاتها وضرورتها. ثم كان باريس 2 عام 2002 بعد باريس1 بمثابة إقرار إقليمي دولي بالدولة الاقتصادية الاجتماعية على حساب الدولة الأمنية السياسية. ثم جاء القرار ١٥٥٩ عام ٢٠٠٤ ايضاً لمصلحة الدولة الاقتصادية الاجتماعية.

كانت الغاية من الاغتيال في ٢٠٠٥ توجيه ضربة قاتلة لمشروع الدولة الاقتصادية الاجتماعية. ولكن بعد اثني عشر عاماً على الاغتيال والاغتيالات، فشلت الدولة الأمنية في استعادة زمام الأمور في البلاد، وهي مهدّدة الآن بمجزرة اقتصادية اجتماعية، خصوصاً بعد ما تعرّضت له الدولة الأمنية المشرقية خلال السنوات الماضية من قتل ودمار واحتلالات من كل الأشكال والالوان في سورياوالعراق وانعكاساتها على لبنان، ممّا يجعلها غير قادرة على ادارة انتظام الدولة الأمنية ،لا هنا ولا هناك.

 تسعى الثنائيات الأمنية السياسية من مكوّنات الاتفاق الثلاثي الى انتاج ثنائية أمنية سياسية رابعة، وهذا ما قد يشكّل خطراً على الجميع، لأن خروج هذه المجموعة من خيارها الاقتصادي الاجتماعي والعودة الى التكوّن الأمني السياسي كما كانت قبل الاجتياح الاسرائيلي واتفاق الطائف، لن يؤدّي الى انتظام الأوضاع بل الى الفوضى المطلقة في لبنان، وسيكون الساعون اليها أوّل ضحاياها، لأنّ طبيعة العنف الذي يدور في المنطقة يفوق قدرة المليشيات اللبنانية وأدواتها القديمة.

لا داعي للجدل حول المهارات في التسويق أو الاعتراض ، لأنّ الدولة الأمنية استنفدت أدواتها ووظائفها في القتل والدمار، وأصبح من الواضح أن مستقبل كل دول المنطقة وبدون استثناء هو الدولة الاقتصادية الاجتماعية المشرقية، وأن لبنان لن يستقر في رئاسته وحكومته الا على أساس القرارين ١٥٥٩و١٧٠١ والحياد الأمني وعلى أساس باريس ٢، لأنّ الدولة الأمنية المشرقية انتحرت عندما حاولت اغتيال الدولة الاقتصادية الاجتماعية.