الثورة تصنع التغيير… ولأن ثورة شبان وشابات ساحة رياض الصلح لا تزال صغيرة، فكان يفترض أن تصنع تغييراً ولو صغيراً على مستوى السلوك السياسي والرسمي، وهذا لم يحدث. وعلى سبيل المثال، فقد أقرت الجلسة المبتورة لمجلس الوزراء أمرين متلازمين: منحة مائة مليون دولار على ثلاث سنوات الى محافظة عكار، ورفض العروض المقدمة لحل أزمة النفايات. وكان واضحاً ان المال هو مقايضة تسمح ب كب النفايات في تلك المنطقة. وهذا ما فهمه الجميع على الفور، في ساحة رياض الصلح وخارجها على امتداد لبنان. وكان من الأذكى للموقف الرسمي أن يعلن ذلك دون مراوغة وبصراحة، بدلاً من التذاكي باصراره على اعتبار ان لا علاقة بمنحة الدولارات مع مكب النفايات! ومع ذلك من يضمن ان تصل المنحة بكاملها الى أهل عكار بعد الدفعة الأولى؟!
الذين لبوا الدعوة الى الساحة هم شريحة عشوائية تضم مختلف مكونات الشعب اللبناني. واصحاب الدعوة، وهم ناشطون من المجتمع المدني، يخدعون أنفسهم اذا اعتقدوا انهم حققوا شيئاً ما، أو احدثوا تغييراً ما في الواقع الحكومي أو السياسي. وازالة الجدار الاسمنتي تمت بناء لانزعاج ابداه رئيس الحكومة، وليس تلبية لانزعاجهم. ورفض عروض النفايات لم يتم خوفاً من غضب المتظاهرين، وانما لأن حفلة العروض جرت من أجل أن يتم رفضها، لأسباب ادركها كثيرون على الفور! ويخطئ أيضاً من يتوهم ان عصبة المنتفعين بالدولة بالحلال والحرام، مستعدة للتخلي عن قرشٍ واحد من مواردها، حتى ولو خرج الشعب اللبناني عن بكرة أبيه الى كل الساحات في الوطن!
هتافات ثورة.. ثورة.. ثورة.. والشعب يريد اسقاط النظام، هو تقليد سمج ونسخ ممسوخ لشعارات سابقة في المنطقة العربية قادت إما حروب أهلية، وإما الى حروب مبطنة بين العرب انفسهم. وكانوا جميعاً، هنا وهناك، ضحايا الهوا الأصفر الداعشي المصدّر اليهم من أحداث مختبرات أجهزة الإستخبارات الخارجية! ويخطئ من يتوهم ان مؤسسة الفساد الحاكمة في لبنان يمكن أن تستسلم أو تتراجع، حتى ولو اضطرت الى الذهاب الى حرب أهلية ثانية، أو حملت في طياتها مخاطر زوال لبنان عن الخريطة! ذلك ان الوطن الحقيقي لهذه المؤسسة هو جيوبها وخزائن ثرواتها وارقام حساباتها السرية في سويسرا، وامارات السمسرة الصغيرة في العالم، وليس لبنان أو أي وطن آخر في العالم، ولو حملت جنسيته!
قد يكون من الممكن الحد من الفساد ولكن ليس القضاء عليه. ولأن خطر النفايات داهم ولا يمكن ابقاء ملفه مفتوحاً الى ما لا نهاية، فلا بد من التعاطي معه بنوع من الواقعية المؤلمة. ولعل افضل وسيلة وأسرعها للحد من الفساد في ملف النفايات، هو التعاطي مع مؤسسة الفساد بأسلوبها ولغتها في هذه المرحلة! لنتصارح أولاً بأقصى ما يحتمل الكلام من وقاحة! والحقيقة الأولى هي، ان كل ما جرى في ازمة النفايات كان مقصوداً ومتعمداً ومخططاً له ببذاءة متعمدة، بما في ذلك تقطيع الوقت، وتراكم النفايات في الشوارع وامام ابواب البيوت، والدعوة الى العروض، والى فض العروض، ثم الى رفضها، والعودة الى المربع الأول دون حلول، وبلا افق!
يتضح اليوم بلا مواربة ولا غشاوة ولا التباس، ان المؤسسة الحاكمة من وراء الستار في لبنان هي شركة سوكلين ولا احد سواها! وواقع الامر ان سوكلين اسم جذاب يليق بدولة وليس بشركة زبالة، ولكن هل يليق بلبنان؟! ومع ذلك، فقد يكون الحل السريع والعملي الممكن، هو التمديد لسوكلين بشرط وحيد هو وضع برنامج حل علمي كما في الدول المتقدمة. وتكون نهاية مدة التمديد لسوكلين هو تاريخ البدء بمشروع الحل الدائم والجذري لازمة النفايات على اساس علمي.