«داعش» سرطان لا علاج له غير استئصاله. اقتلاعه واجب وطني وقومي وإنساني. والعلاج الناجع لضمان عدم عودته يعني إشراك البيئة التي تسرب إليها في اقتلاع جذوره وتحصينها ضد أكاذيبه وادعاءاته. ومن المشروع التفكير مبكراً بما ستكون عليه حال المريض بعد اجتثاث الورم الخبيث.
ليس بسيطاً أن يسيطر التنظيم على تكريت. لهذه المدينة رنة في التاريخ العراقي الحديث. ليس لأن قبر صدام حسين موجود في قرية العوجة القريبة منها بل لأنها تحمل رمزية ما بالنسبة لدور العرب السنّة في العراق. لم يكن باستطاعة الحكومة العراقية ترك تكريت في عهدة «داعش». لكن شروط الجراحة الحالية تثير المخاوف من أن يؤدي سقوط تكريت في أيدي مهاجميها، وهو مطلوب، إلى سقوط توازنات لا بد منها كي يبقى العراق بلداً موحداً وجزءاً من العائلة العربية في الإقليم.
ما كان لهذه التخوفات أن تطرح لو أن الجيش العراقي هو الذي تقدم لاستعادة تكريت وبعد إجراءات تبدد مخاوف أهل الأنبار وصلاح الدين ونينوى. ما يحدث هو أن «الحشد الشعبي» هو اللاعب الأول اليوم في مكافحة التنظيم والحشد هو تحالف ميليشيات شيعية. ثم أن الهجوم يتميز أيضاً باستنكاف أميركي عن توفير التغطية الجوية له وبنزعة إيرانية علنية في تأكيد إدارته.
اتسمت التدخلات الإيرانية في دول الإقليم في العقدين الماضيين ببراعة وفرت لها أكثر من غطاء. ما يلفت النظر في الأسابيع الماضية هو مشاركة طهران في إشهار هذه التدخلات. صور الجنرال قاسم سليماني في الميدان العراقي بعد السوري. وتصريحات مسؤولين إيرانيين عن النفوذ الراسخ في أربع دول عربية فضلاً عن الحديث عن باب المندب والوجود المتجذر على المتوسط.
لماذا غادرت طهران تحفظها السابق؟ هل أرادت القول إنها انتزعت دورها الإقليمي في لبنان وسورية والعراق واليمن قبل أي اتفاق نووي محتمل مع أميركا؟ هل أرادت إجراء تغييرات حاسمة لا يمكن الانقلاب عليها؟ هل أرادت الإيحاء أن الدول المذكورة جزء من مداها الحيوي وأن على أهل المنطقة الاعتياد على رؤية جنرال إيراني هنا وجنرال إيراني هناك؟ هل أرادت أن تقول بوضوح قاطع ما كانت تهمسه لزوارها وهو أنها ليست دولة مهمة في المنطقة بل الدولة الأهم فيها؟ وأن من حق الدولة الأهم أن تعيد صياغة التوازنات في المنطقة بما يتلاءم مع دورها الجديد فيها؟ ليس بسيطاً أن يعلن علي شمخاني أن إيران منعت سقوط بغداد وأربيل ودمشق.
لنعد إلى العراق. في كانون الثاني (يناير) الماضي سمعت في بغداد وأربيل من يتخوف من أن يكون العرب السنّة في العراق الخاسر الكبير من الحرب لاستئصال «داعش». الحرب تدور في مناطقهم بكل ما تعنيه من قتل وتدمير وتهجير. لكن كانت هناك قناعة بأن رئيس الوزراء حيدر العبادي مهتم باجتذاب العرب السنّة إلى كنف الشرعية قبل خوض الحرب في معاقلهم. وثمة من اعتقد أن الدور الأميركي سيؤدي إلى تلطيف الإدارة الإيرانية لهذه الحرب. وبسبب التخوف من اندلاع روح الثأر كرر آية الله السيستاني دعواته إلى تجنب الانتقام لا بل حض على تسليح العشائر السنية المستعدة للمشاركة في الحرب.
لا شك أننا نعيش أياماً حاسمة بالنسبة إلى العراق. أيام حاسمة للتوازنات داخله وحاسمة أيضاً بالنسبة إلى موقعه في المرحلة المقبلة. وواضح أن الأدوار ترسم بالدم. أخطر ما يمكن أن يحدث أن تفهم المعركة الحالية وكأنها كسر نهائي للتوازنات الداخلية وأن تضاعف من تهميش دور العرب السنّة. حدوث ذلك يرشح العراق لاضطرابات مقبلة. فالانتصار السابق على «القاعدة» تبخر بفعل الاحتراب الداخلي وأتاح لـ «داعش» التسلل إلى مساحات كبيرة من العراق. أي تجاهل لشروط إرساء مصالحة وطنية حقيقية يهدد بتكرار الأخطاء القاتلة.
إنها نهاية حقبة عراقية صاخبة. تذكر عزيزي القارئ أن الجيش العراقي اخترق الحدود الإيرانية في 1980 وكانت الحرب الطويلة المدمرة التي انتهت بوقف النار وكأس السم. ذلك العراق ذهب إلى غير رجعة. حتى العراق الذي ولد من رحم الغزو الأميركي يبدو انتقالياً. إننا في الطريق إلى عراق جديد. وفي الطريق إلى منطقة جديدة ونزاعات قد تكون أشد خطورة بعد سياسات الفتوحات والتطويق.
هاتفت صديقاً عراقيا للاستفسار والتدقيق. قال إن الجراحة الجارية مفتوحة على كل الأخطار بالنسبة إلى العراق والعلاقات بين المكونات السنية والشيعية والكردية. قال أيضاً إن سقوط تكريت حدث كبير بكل المقاييس حتى ولو لم يتقدم قاسم سليماني للوقوف على قبر صدام حسين ليعلن نهاية حقبة وبدء أخرى.