أَجِدُ سليمان فرنجيه نائب زغرتا سياسياً تقليديا غير معقّد. هو من بقايا التقليديين البارزين الذين لا مشكلة لديهم مع تقليديتهم في زمن يمتلئ بتقليديين استطاعوا البقاء على قيد الحياة السياسية بعد الحرب، يعجّ خطابُهم، لا سلوكُهم، بازدواجيات متعبة لهم وللرأي العام. معقدة ومتعبة من حيث لغة الدعوة للتغيير العصري.(ما هو العصري؟ على جري عادة سؤال المثقفين التقليديين).
أَجِد سليمان فرنجيه طائفيا غير معقَّد ولا مشكلة لديه مع طائفيته في زمن يسيطر عليه طائفيّون لا يتورعون ديماغوجيّاً عن الإعلان أنهم مع إلغاء الطائفية السياسية.
التقليدي في هذا المرشح “القوي” أو الذي بات قوياً على المستوى الخارجي والمسلم وبعض المسيحي، لرئاسة الجمهورية اللبنانية بعملية ترشيح تدل على قوة وتبعية ودهاء النظام الطائفي اللبناني، خلافا لما اعتقده البعض خلال الحراك المدني الذي شرشح الطبقة السياسية ولم يهدّدها لحظةً… هذا التقليدي في هذا المرشّح أنه يقدّم نفسه من دون مساحيق في ما يسمّيه اللبنانيون “الزعامة”.
هو يرث علنا وباعتزاز هذه الزعامة، وقد حافظ عليها حسب نصيحة جده لوالده: “إذهب وقاتل دفاعا عنها” عندما جاءه، أي طوني الابن لسليمان الجد، يشكو من بعض ممارسات أخصامه. يرثها ويفهمها كما هي: علاقات حماية وقوة وولاء مستند على مصالح خدماتية زبائنية شرعية وغير شرعية مثل كل الزعامات اللبنانية الجديدة والقديمة على السواء. وهو لا مشكلة لديه مع هذا النمط لأنه يعرف أنه، بعيداً عن التجليط، سيتخلّى عنه جمهوره إذا لم يمارسها بهذه الطريقة مثله مثل معظم الزعامات اللبنانية لا فرق بين واحدةٍ وأخرى أكانت جديدة أم قديمة، ميليشيا أم عائلة، حزبا أم فردا.
في لبنان الزعامة تسقط عندما لا يعود لديها عصبية قتالية في الشارع هي التي تحمي الزعامة في الانتخابات النيابية، وهي انتخابات لا يكفي للفوز فيها أيا تكن شعبية المرشح الزعيم واسعة أو محدودة إذا لم تحمها القوة العصبية في الشارع. ونتذكّر كيف سقط كامل الأسعد عام 1992 عندما تعرض موكب انتخابي لجماعته في قرية الزرارية في قضاء الزهراني لإطلاق نار من جماعة “حركة أمل” فتشتّت الموكب مهزوماً وهائماً على الطرقات وصدر يومها عن إعلام “حركة أمل” بيان أَعْتَبِرُهُ شخصياً من أطرف ما صدر في تاريخ الحياة السياسية اللبنانية وكاتبه لا يزال على قيد الحياة وناشطا: قال البيان أن “جماعة كامل الأسعد” دخلوا إلى الزرارية وهم يطلقون النار على أهاليها فاضطر الأهالي للدفاع عن أنفسهم: تصوّر عزيزي القارئ أن موكبا انتخابيا مهمته جذب التأييد في الانتخابات يدخل إلى قرية وهو يطلق النار على الناخبين!!
بأشكال مختلفة متصلة بالعصبية الشارعية ومستتبعاتها من الضعف المالي والعلاقات الخارجية سقط آل شمعون وآل إده وآل الصلح وآل تلحوق وغيرهم عديدون، مثلهم أو أكبر أو أصغر كما من الذين لا زالوا “يكافحون” للبقاء السياسي كآل ارسلان وآل سكاف وآل كرامي وآل سلام وغيرهم…
سليمان فرنجيه حالة تقليدية جدا ولكنها حالة غير مضلِّلة: واضحة مريحة للعقل التقليدي اللبناني العميق (مثل الدولة العميقة) ولمن انضمّ إليه مثل الأحزاب الميليشياوية والطائفية الجديدة والتي باتت مخضرمة من حيث أنها كانت قوى تغييرٍ على أساس الموجة الطائفية الثانية من “تطور” النظام السياسي الطائفي اللبناني كحزب الله وأمل وتيار المستقبل والتيار الوطني الحر وقبله القوات اللبنانية وحزب الكتائب. مع الأخذ بخصوصية الحالة الدرزية حيث قاد التغيير، أي إقصاء بقية أو معظم العائلات، ممثلٌ أعلى الأريستقراطية العائلية في الطائفة.
الحزب الشيوعي بلا عصبية شارعية حتى لو حمل السلاح في فترة من الفترات ولذلك لم يستطع أن يصل إلى البرلمان رغم امتداده الواسع وخصوصا النخبوي إلا بشكل غير مباشر لممثله الذي كان “زعيم المستقلين” في الحزب حبيب صادق وعن طريق ترتيب “تعييني” بين المرجعية السورية وحركة أمل وحزب الله رغم شعبية الصديق حبيب صادق الأكيدة.
الحزب السوري القومي لديه تقليديا عصبية شارعية بل حتى منطقة نفوذ خاصة كالكورة (وأجزاء محدودة من مناطق أخرى) قبل الحرب وبعدها ولكنه لم يستطع أن يصل إلى البرلمان إلا بفرض سوري بعد الحرب وقبل الحرب مرةً واحدةً بالتحالف مع رئيس الدولة في عهد كميل شمعون.
سليمان فرنجيه حالة مريحة للعقل اللبناني التقليدي ولو كان لديه أخصامه الشديدون داخل زغرتا.
تعرفون أنه في لبنان مسألة “العراقة” السياسية تحتاج إلى تدقيق بل تفنيد. باستثناء حالات قليلة كآل العلي وآل إرسلان وآل الخازن وآل جنبلاط وآل الأسعد وآل حمادة وآل الداعوق وحتى داخل هذه الحالات فإن فروعا أبعدت فروعا أكثر عراقة من العائلة نفسها. كانت نقطةُ التحول الكبيرة في كل هذا مرحلةَ الانتداب الفرنسي. سقطت عائلات وبرزت عائلات جديدة في السياسة مع دولة لبنان الكبير. من هذه العائلات آل فرنجيه ومثلهم العديد من عائلات ما أسماه يوما الدكتور طريف الخالدي “الانتقال من مرتبة الوجاهة إلى مرتبة الزعامة”. النقطة الفاصلة لولادة هذه العائلات السياسية الجديدة كان الانتداب الفرنسي. في الصدارة هنا آل إده وآل الخوري (رشميا) وآل شمعون ولاحقاً آل الجميل وآلات كثيرة في كل الطوائف لا وقت لا لتعدادها ولا لدراسة جادة فعلية حولها بعيدا من الخرافات التي يروجها بعضها عن نفسها.
لا شك أنه خلافاً للتبسيط الرائج لدى الكثيرين فإن النظام الطائفي اللبناني نظام غير جامد في التمثيل السياسي. هناك حراك دائم فيه، عائليٌ ومناطقي وأيديولوجي ولو أنّ كل ذلك يحصل، مع بعض الاستثناءات، في ظل النظام الطائفي. إذن هذا النظام الطائفي الذي أسسته مع الفرنسيين نخبة مسيحية وخصوصا مارونية بقيادة البطريركية في بكركي، هو نظام ديناميكي قادر على تغيير ملموس دائم لممثّليه كما تُنبِئ حوالي مائة عام على نشوء دولة لبنان الكبير وأقل قليلا على نشوء النظام الطائفي (دستور 1926).
لكن لننتبهْ في غمرة الثرثرة المستمرة فقط على صفحات الصحف عن الحاجة إلى عصرنة التغيير إلى أمرين إذن:
الأول أن التغيير تأتي به حتى الآن الطائفية نفسها. هكذا عند السنة والشيعة والدروز أحزاب حاكمة وقوية بمعنى ما آل إليه التكوين الاجتماعي للطائفة واستناده غير المسبوق إلى الدعم المباشر لدول في المنطقة. وقد أعدتُ قراءة كتاب الزميل روجيه جهشان المفيد جداً عن السياسي اللبناني حسين العويني لأنتبه وأتذكّر في آن معاً أن العويني كان أول “رفيق حريري” سعودي في الحياة السياسية اللبنانية بالمعنى شبه الحرفي للتشابه لكنْ بمعايير وظروف الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم.
الأمر الثاني أنه إذا كان هناك لبنان قديم لا يزال موجودا فهو موجودٌ عند المسيحيين حتى بقواهم الجديدة أو المخضرمة. فلبنان المتنوع: الأحزاب القديمة والجديدة، الكنيسة، البورجوازية المدينية، العائلات الريفية هو اليوم في مناطق المسيحيين ولبنان السياسي “الجديد” موجود في مناطق السنة والشيعة والدروز. كلاهما، الجديد والقديم، طائفي. الجديد تحت حكم “الحزب الواحد” بينما القديم مع جديده متنوِّعٌ متنافس… يختلفان إذن في التنوع وهذا وحده فضيلة. ويتفقان، عموما، في الفساد والطائفية والعمالة البنيوية للخارج. كنت أسمّي أحد أصدقائي سابقا “المناضل السعيد” عكس المناضل التقليدي المفترض أن يكون تعيساً. اليوم دعوني أتحدّث عن الحالة اللبنانية كحالة “عمالة سعيدة” للخارج.
سليمان فرنجيه، سواء قصد دهاة طبخ هذا الترشيح في العواصم المعنية، وسواء تحوّل هذا الترشيح القوي إلى انتخاب حقيقي، فإن سليمان فرنجيه يمثل مصالحة شكلية وربما بعض مضمونية بين لبنان القديم ولبنان الجديد. يحفظ لدى الأحزاب “الواحدة” سندها في نفوذ الدولة ويحفظ لدى المسيحيين قوة قوى التنوع المستمرة. إنها مزاوجة وربما مصالحة بين قوة القوى الطائفية السنية الشيعية الدرزية وبين استقرار الدور المسيحي في التركيبة اللبنانية. لا يدفع هذا الدور إلى الأمام مع كل الاضطرابات المحتملة كما يمكن أن يحصل مع ميشال عون ولا يضعفه عن ما وصل إليه مع الياس الهراوي وميشال سليمان.
أوسع من ذلك لنذكِّر بالأساس الإقليمي الدولي بعد هذا الغرق “التحليلي” الذي لا أستطيع تلافيه في الزواريب اللبنانية:
القرار الدولي الأساسي الذي تشكل عودة الاهتمام الإقليمي الدولي بانتخاب رئيس جديد للجمهورية علامةً كبيرةً أو تأكيداً جديداً عليه هو قرار الحفاظ على لبنان كسويسرا ليس للسلام في الشرق الأوسط وإنما كسويسرا للحروب في الشرق الأوسط. واحة سلمية بين الحروب. وهذا من حظنا ليس فقط لأنه يمنع الانفجار لنقوم بأدوارنا في خدمة الحروب: تجارة السلاح، الاستشفاء للمقاتلين المتعبين، إيداع الأموال الآتي معظمها للمحاربين من دول مهمة أي بطرق شرعية، التجسس، النضال في أي اتجاه يريده المناضلون، التعليم وبعضه محترم، المخدرات، الثقافة… بل أيضا لأن كل ذلك سيأتينا بالازدهار. لكن بمعزل عن نوع توزيع الثروة الذي يهم بعض الباحثين اليساريين فقط.
شكراً أميركا! على هذا التفكير بلبنان أيا يكن الرئيس. وشكرا لصديقتَيْكِ السعودية وإيران. أما المنطقة فبحثٌ آخر والعياذ بالله.