دخل المشرق العربي في زمن الحسم بلا شك. وما تفصلنا عن الاستحقاقات وبدايات التأسيس للجديد المقبل علينا٬ إلا أسابيع قليلة أشار إليها الرئيس الأميركي باراك أوباما في كوالالمبور على هامش فعاليات اجتماع رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان). كان الرئيس الأميركي يتحدث عن فسحة الزمن المتاح أمام موسكو لتحسم خيارها بالتخلي فعلًيا عن بشار الأسد. سبقت ذلك إشارات عدة تفيد بأن موسكو تهيئ «البنية التحتية» لهذا القرار٬ من خلال ما كشفته الصحافة الإسرائيلية من أن فلاديمير بوتين أبلغ الأسد ضرورة التخلي عن صلاحياته. وقد أكدت التسريبات الإسرائيلية كلاًما نسب إلى الدبلوماسي الإيراني جاويد قربان أوغلي٬ مدير شؤون الشرق الأوسط في الخارجية الإيرانية٬ قال فيه إن الرئيس الروسي طلب من الأسد الاستعداد لحزم حقائبه٬ لأنه في أي لحظة قد يحين وقت رحيله أوُيطلب منه ترك السلطة.
عوامل عدة ساهمت في تسريع الاتجاه نحو مرحلة جديدة في سوريا تفتتح٬ من دون مبالغة٬ عصًرا جديًدا في المشرق. أول هذه العوامل الصمود الأسطوري للشعب السوري٬ وصلابة الموقف العربي المتمسك بألا يكون الأسد جزًءا من مستقبل سوريا٬ معطوًفا علىِقصر نفس المغامرة الروسية وحاجتها إلى ترجمة المجهود الحربي في سوريا إلى نتائج سياسية سريًعا٬ وأخيًرا هزيمة إيران في المشرق العربي٬ وهو ما استدعى أصلاً دخول موسكو على خط الأزمة السورية!
لن يتأخر غروب حكم آل الأسد عن سوريا كثيًرا٬ غير أن مرحلة ما بعد الأسد ليست ماًء رقراًقا٬ لا في سوريا ولا في لبنان٬ وهو ما عجل من إدارة محركات التسوية بين اللبنانيين.
يشبه سقوط الأسد٬ أًيا تكن الفترة التي سيستغرقها٬ غرق سفينة «تايتانيك»٬ مع ما يعنيه ذلك من قدرتها على سحب السفن الصغيرة القريبة منها إلى أعماق العتم والموت. وعليه٬ فالتحدي الأول المطروح على الحياة السياسية والوطنية اللبنانية هو كيفية حماية لبنان من أن تجذبه طاقة انهيار النظام السوري٬ ولو أتى على شكل خروج مشرف ترعاه وتصونه موسكو٬ كما هو مرجح.
الواقع يقول إن التسوية التي نحن مقبلون عليها٬ نحن اللبنانيين٬ هي في مكان ما تسوية بين خاسَرين٬ مهماُزين لأي من الطرفين أنه رابح. سوريا المدمرة٬ المصدرة لكل أشكال النزوح والفقر والتخلف والانهيار الاجتماعي والأفكار الراديكالية٬ هي خسارة للفريقين. وهي بالتأكيد ليس ما راهن عليه أي منهما. رهان فريق سوريا الأسد في لبنان على حماية الأسد لا يعدو وهًما٬ ورهان خصومه على اقتلاع سهل للنظام ونقل سوريا من موقع إلى موقع وهم مواٍز ما لم يكن أكبر.
ككل تسوية٬ لا بد لها أن تتعرض للقنص٬ إما من متضررين وإما من حالمين٬ لا سيما إذا كان عنوان التسوية انتخاب صديق بشار الأسد الشخصي الوزير سليمان فرنجية رئيًسا للجمهورية بعد عشر سنوات من الانتفاضة ضد سوريا٬ بل وفي لحظة سقوط الأسد الآتية لا ريب فيها.
غير أن اللبنانيين ما عادوا يملكون ترف إبقاء البلاد معلقة بلا نصاب دستوري ومؤسساتي٬ وتشريع هيكل الدولة على مزيد من التآكل والانهيار٬ إلا من كان منهم مستفيًدا من حال التآكل والانهيار كحزب الله. وهم لا يملكون ترف الحلول الوسط التي اسُتنزفت مع حكومة الرئيس تمام سلام٬ وما عادت قادرة على إنتاج مطمر للنفايات٬ دعك من معالجة أي عنوان سياسي أو سيادي من العناوين الكبرى. وبالتأكيد ما عادوا يملكون ترف الأوهام بأن فريًقا سيلغي الآخر بموجب نتائج الحرب في سوريا أو يغير موازين القوى لصالحه بشكل دراماتيكي.
أما في ما يعني قوى «14 آذار»٬ أو ما بقي منها بأي حال٬ فثمة حاجة ملحة إلى إعادة الصراع إلى داخل النظام السياسي بدلاً من إبقائه خارج النظام. أًيا تكن التسوية٬ فإن في إعادتها الاعتبار للنظام السياسي وهيكل الدولة مكسًبا قد لا يستشعره من لا يزالون على الجبهات. وأزعم أن ليس ثمة كثير مما يمكن أن يكسبه حزب الله من تسوية تأتي بحليفه رئيًسا.. ليس بوسعه أن يربحه من إدامة الفراغ والتهرؤ واستنزاف النظام ومؤسساته والتسلط بسلاحه على البلاد٬ في حين أن إنهاء الفراغات المتتالية هو مكسب لديمومة الدولة اللبنانية في واحدة من أدق اللحظات التي تمر بها المنطقة. لماذا سليمان فرنجية؟
العارفون بالتركيبة اللبنانية يعرفون أن فرنجية٬ على عكس حليفيه حزب الله والجنرال ميشال عون٬ ينتمي إلى فصيلة قوى النظام أو الـ«استابلشمنت»٬ في حين يقع حلفاؤه خارجها تماًما. هو أقرب بمعنى من المعاني إلى الرئيس نبيه بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط٬ منه إلى هوية حلفائه. ثم إن التوازن السياسي في البلاد لا يسمح إلا برئيس حكومة من «14 آذار» ورئيس جمهورية من «8 آذار»؛ يرعى الأول مصلحة الدولة اللبنانية٬ ويقف الثاني «حارًسا قضائًيا» على تركة نظام الأسد.
اختبار التسوية في لبنان هو تمهيد للتسوية الكبرى في سوريا. هو تقاطع الحد الأدنى بين الفيلة المتصارعة في المشرق٬ وتثبيت للتوازن اللبناني٬ بالأصالة وليس بالوكالة٬ وفرصة جديدة لحماية لبنان من الالتحاق بانهيار سوريا الأسد.