قد يأمل اللبنانيون أن تشكّل نهاية الانتخابات النيابية وصدور النتائج خاتمة لمرحلة من التشنّجات واكبت الحملات الانتخابية وتخلّلتها أحداثٌ أمنية ومواجهات وخطاب متوتّر خرج عن اللياقة وأجّج العصبيات الطائفية والمذهبية.
لكن الحقيقة غير ذلك، فعدا الملفات الداخلية الصعبة التي تنتظر اللبنانيين وعلى رأسها مسألة تشكيل حكومة من المرجح أن تبقى طوال السنوات الأربع المقبلة ما يفاقم من المصاعب التي تعترض تشكيلها، فإنّ الوضع الاقليمي والتحدّيات والمخاطر الموجودة تُنبئ بصيف حار وطويل سيلفح لبنان وسيضاعف من وطأة مشكلاته الداخلية.
فهنالك الجرح اليمني والوجع السعودي منه حيث من السذاجة حصر رسائل الصواريخ الحوثية في اتّجاه السعودية في اطار الحرب اليمنية فقط. إنها رسائل تصل حروفُها الى مناطق أبعد مثل سوريا.
وهنالك غزة والمسار التصاعدي بين الفلسطينيين والإسرائيليين كما بين حركة «حماس» والسلطة الفلسطينية. وهنالك الاتّفاق النووي والمأزق الكبير الذي يقف امامه الجميع ويُنذر بأخذ الامور في اتّجاهاتٍ جديدة.
كذلك إعلان واشنطن عن افتتاح سفارتها في القدس وسط تلميح «البيت الابيض» الى إمكانية مشاركة الرئيس الاميركي دونالد ترامب شخصياً في هذا الافتتاح. وهنالك بالتأكيد الساحة السورية المفتوحة على كل انواع المواجهات النابعة من سعي كل طرف لتثبيت حجمه ودوره ونفوذه للمرحلة المقبلة، وتدفع الشرق الاوسط الى الدخول في اسابيع حارّة وصعبة.
وما يفاقم من خطورة الوضع والخشية من أيّ حركة غير مدروسة عودة الضغط على الرئيس الاميركي دونالد ترامب في ازمته الداخلية. فعناصر مكتب التحقيق الفيدرالي «اف بي آي» دهمت مكتب محامي ترامب الخاص وكاتم اسراره في نيويورك وصادرت وثائق اتّصالات بطلب من المحقّق الخاص روبرت مولر الذي يستعدّ لاستجواب ترامب طويلاً. وهذا يعني أنّ الحبل عاد ليلتفّ مجدداً حول عنق ترامب بعد فترة من المراوحة. وفي العادة فإنّ زعماء الدول يختارون الهروب في اتّجاه رفع منسوب المعارك الخارجية، وهو ما يبدو متوافراً امام ترامب في الشرق الاوسط.
صحيح أنه بات لدى ترامب عدد من الصقور ضمن فريق ادارته مثل وزير الخارجية بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتون، إلّا أنّ هذا الفريق اضطر للخضوع الى قرار وزارة الدفاع ومؤسسات «الدولة العميقة» بضرورة التنسيق مع روسيا في القصف الانتقامي لسوريا وعدم توسيع دائرة الأهداف المطلوبة. كان واضحاً أنه لا يجب إثارة روسيا كثيراً خشية التصادم معها، كما يجب عدم استهداف البنية الأساسية للنظام السوري خشية انهيار الدولة والانزلاق نحو المجهول وهو ما يعرّض المصالح الاميركية لخطر كبير.
لكن هذا لا يمنع السعي الى تحجيم النفوذ الايراني داخل سوريا وهو ما تطالب به اسرائيل وتلحّ عليه.
فبعد قصف مطار «تي. فور» اعتبرت ايران انّ ما حصل يشكّل تطوّراً جديداً وأوّلَ مواجهة مباشرة بين اسرائيل وايران في سوريا والتزمت الردّ على الرسالة. وكان واضحاً أنّ طهران ملزمة بإرسال ردّها رفضاً للرسالة الإسرائيلية ـ الأميركية التي تقول لإيران إنه بات عليها خفض حضورها في سوريا إذا لم يكن الانسحاب منها.
لكنّ التهديد الإيراني والذي ينتظر التوقيت الملائم، وربما الظروف المطلوبة، استبقه هجوم جديد طاول مواقع عسكرية شرق حمص.
الرسالة الإسرائيلية الثانية والتي استُخدمت فيها صواريخ متخصّصة بدكّ الكهوف والأماكن المحصّنة كانت قد سبقتها زيارة قائد القيادة المركزية الاميركية «سنتكوم» الجنرال جوزف فوتل لإسرائيل وبقيت بعيدة من الإعلام، ما يؤشر الى وجوب تنسيق أميركي ـ إسرائيلي حول الضربة أو الرسالة الثانية، وهذه الرسالة جاءت بعيد انتهاء زيارة وزير الدفاع الاسرائيلي افيغدور ليبرمان لواشنطن، وتزامنت مع اول زيارة لوزير الخارجية الاميركي الجديد مايك بومبيو للسعودية وبعد ساعات على لقائه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
الرسالة الثانية جاءت بمثابة تأكيد مضمون الرسالة الاولى مع اضافة أرادت إسرائيل الإيحاء من خلالها وكأنها غير قلقة من الرد الإيراني مع بند جديد موجَّه الى روسيا هذه المرة، ومفاده أنّ غطاءَها لإيران في سوريا غيرُ كافٍ وغيرُ فعّال، ذلك أنّ روسيا كانت قد قرّرت بعد ضربة مطار «تي. فور» تزويد سوريا مجاناً منظومة «إس ـ 300» وتسريع تسليمها.
الردّ الأميركي على الردّ الروسي جاء عبر الغارة الثانية اضافة الى سماح واشنطن بتزويد إسرائيل طائرات معروفة باسم «الشبح» وهي من نوع «إف. 35» من إنتاج شركة «لوكهيد مارتن» للصناعات الدفاعية وهي عصية على الرادارات.
مع الاشارة الى أنّ روسيا كانت قد نشرت في مواقعها منظومة صواريخ «إس ـ 400» الأكثر تطوّراً في العالم.
وعدا عن أنّ منظومة الـ»إس ـ 300» ستسمح للقيادة السورية بالتصرّف مباشرة من دون الرجوع لموسكو، ظاهرياً على الاقل، فإنها تشكل خطراً على حرّية حركة الطائرات الإسرائيلية، وسيصبح من الصعب جداً توجيه ضربة مباغتة ضد سوريا.
لكنّ للمبارزة الأميركية ـ الروسية حدوداً لن تتخطّاها واشنطن، وعلى سبيل المثال فإنّ بومبيو المعروف بعدائه لروسيا كان قد أجرى تعاوناً إستخباريّاً مع روسيا أواخر السنة الماضية ساهم في إحباط هجوم إرهابي في سان بطرسبورغ. وهذا ما دفع بوتين الى شكر ترامب الذي أحال الشكر بدوره الى بامبيو صاحب الفضل في العملية. وهذا يؤكّد مجدّداً خطوط التفاهم المفتوحة بين واشنطن وموسكو حتى حول سوريا ولكن وفق درجة معيّنة. فاللعبة تبقى مفتوحةً حتى مستوى معيّن لا أكثر.
لكنّ السؤال الأهم والأكبر هو كيف سيكون الردّ الإيراني على إسرائيل، وأيّ رسائل سيحمل فيما يقترب موعد قرار البيت الابيض حول التجديد أو عدمه للاتّفاق النووي.
ولا شك في أنّ النزاع حول الدور الإيراني في سوريا مرتبط في بعض جوانبه بموضوع الاتّفاق النووي.
وعندما اعلن نتنياهو في مؤتمر إعلامي عن وثائق النووي الإيراني من خلال عملية استخبارية كما ذكر، فإنّ عدداً من المراقبين رأوا بهذه الخطوة سعياً إسرائيلياً لإحراج وإضعاف الموقف الأوروبي المعارض للانسحاب من الاتّفاق النووي وهو ما يجعل واشنطن في موقف حرج.
لكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لواشنطن ولقاءَه الرئيس الأميركي كشف النقطة الجوهرية التي يريدها الغرب من موضوع إعادة التفاوض حول الاتّفاق أو حول بنود جديدة.
وذكرت مصادر ديبلوماسية اميركية في واشنطن انّ قمّة ترامب – ماكرون شهدت نقاشاً حول إعادة فتح باب التفاوض والتسوية مع إيران حول الملفات الملتهبة وساحات المواجهة في الشرق الأوسط وبمشاركة روسيا.
ووفق هذا المصدر الديبلوماسي الخبير في ملفات الشرق الاوسط، فإنّ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما قد يكون صمّم الاتّفاق في إطار استراتيجيّته والتي قضت بالانسحاب بهدوء من أزمات الشرق الاوسط ومستنقعاته. لكنّ ترامب يرى أنّ بلاده ما تزال عالقة في وحول المنطقة وأنّ الاتّفاق يقيّدها بإيران لسنوات مقبلة، وأنه بالضغط الذي يمارسه الآن والتهديد بانسحابه من الاتّفاق يريد دفع إيران الى إنجاز تسويات عريضة في اليمن والخليج وسوريا والعراق وأيضاً لبنان، وإلاّ فإنّ البديل سيكون التلويح بإطلاق سياسة تسعى الى تغيير النظام من خلال أشكال عدة لن تصل أبداً الى احتمال حصول مواجهة عسكرية، وهو احتمال غير موجود إلّا في عقول بعض البسطاء.
قبيل إنجاز الاتّفاق النووي رفضت طهران التفاوض مع واشنطن حول ملفات المنطقة لإقتناعها بأنها أنجزت اوراقاً رابحة ليست في حاجة لإعطاء مقابل لها. اليوم يريد ترامب العودة الى هذه النقطة إن بالذهاب مباشرة الى الاتّفاق النووي، او مواربة عبر الضغط على إيران في سوريا.
لكنّ إيران تدرك جيداً أنّ لهذا الضغط حدوداً، فروسيا حاضرة لتعزيز موقعها كمرجعية مباشرة على حساب الدور الاميركي. وساحات المواجهات تسجّل مزيداً من المكاسب للمحور الايراني ـ الروسي وآخرها من خلال الانتخابات النيابية في لبنان. ولكن الأهم الردّ الإيراني والذي سمح بإمرار «الانتصار» الانتخابي في لبنان، وهو ما يعني أنه بات قريباً، وأنّ الساحة اللبنانية قد تشهد تردّداته، ما يعني إدخال لبنان مجدّداً في الصيف الطويل والحار.