لو أن أجواء «تثبيت المصالحة» في الجبل بين الإخوة المسيحيين والإخوة الدروز، في المختارة، يوم السبت الماضي، قد سادت جلسات الحوار الوطني، المتقطعة ثم المتصلة على امتداد ثلاثة أيام، بلا انقطاع برعاية رئيس المجلس النيابي، لكان لبنان اليوم، جنة عدن..
إن مصالحة الجبل قد تمت عملياً، قبل خمسة عشر عاما، وبرعاية غبطة البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير.. وما جرى في كنيسة المختارة المجددة، يوم أمس الأول وبضيافة وليد جنبلاط، هو تثبيت وتمكين لهذه المصالحة، بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، خصوصاً وقد تمت، مؤخراً، تسوية آخر مآسي حرب الجبل في قرية بريح. من هنا فإن خطاب البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي قد تجاوز المصالحة الثنائية في الجبل للحديث عن المخاطر التي تتهدد لبنان ليس فقط في نظامه، بل في وجوده ذاته..
مثل هذا «الإنذار» تردد كثيراً في جلسات الحوار الوطني التي جمعت «أقطاب الطوائف المسيحية والإسلامية في لبنان»، وأخطرها تلك التي استمرت «مفتوحة» على مدى ثلاثة أيام، خلال الأسبوع الماضي، بضيافة الرئيس بري والتي انتهت إلى تأكيد الخلاف والاختلاف، على كل عناوين الحوار المفتوح: النظام ذاته ثم المؤسسات المجسدة لطبيعته الطائفية، رئاسة الجمهورية وصلاحياتها، مجلس الوزراء وأين تتقاطع صلاحيات رئيسه والمؤسسة جميعاً مع صلاحيات الرئيس الأول بانعكاساتها الطائفية… ومن هنا انفتح الباب لإعادة طرح مجلس الشيوخ فثارت البراكين الطائفية النائمة، مهددة أسس الحوار قبل نتائجه: طائفة الرئيس وصلاحيات أعضائه الشيوخ واحتمال تضاربها مع اختصاصات مجلس النواب! وهكذا خرج الجميع عن جدول الأعمال المفترض وهات يا مزايدات طائفية ومذهبية يمكنها أن تعطل أقوى دولة في العالم!
سقط مشروع القانون الجديد للانتخابات النيابية، بالضربة الطائفية القاضية، واغتيل مجلس الشيوخ قبل أن يولد من خلال تطئيف رئاسته، ثم من خلال محاولة تحديد صلاحياته حتى لا يذهب المجلس النيابي ضحية لاستيلاد «غريمه» بعد تأخير ست وثلاثين سنة على موعد الولادة المفترض!
بل سقطت، للمرة الألف، الطبقة السياسية التي تتقاسم حكم البلاد وخيراتها منذ دهر… ولكنها تبدو مطمئنة إلى غدها لثقتها بأن استيلاد البديل صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً: فهي الحاكم بأمره، هي المشرّع والمنفذ، هي هي القضاء والأمن، هي المتحكم بالإدارة، ومختلف مصادر الرزق (شرعيا وغير شرعي..) لكأنّ ثمة حنيناً إلى أيام المتصرفية، في العهد العثماني، أو الى أيام الانتداب الفرنسي (وبالاستطراد إلى زمن «الوصاية السورية»). وبالتمني إلى «تشريع» التدخل الأميركي في مختلف جوانب الحياة من الرئاسة الأولى، بالترشيحات المختلفة، إلى الاقتصاد والتداول النقدي عبر الإجراءات البوليسية التي تجعل كل مواطن مشبوهاً في العين البوليسية الأميركية حتى يثبت العكس (وهذا مستحيل..) إلى احتمالات الثروة النفطية التي يسعى العدو الإسرائيلي لنهبها قبل أن نباشر التنقيب عنها!
إذن، فلا ضرورة للتعب، ولا لهدر الوقت في ثرثرات سياسية فارغة من المضمون الوطني، ولكنها تفيد في تكريس الطائفية قدراً على اللبنانيين في جوانب حياتهم كافة، من تعيين الحاجب إلى اختيار رئيس الجمهورية، مروراً بشروط التعيين والتوظيف من المدير العام إلى السائق، مروراً باختيار رؤساء مجالس الإدارة في المؤسسات العامة المختلفة وصولاً إلى «المياومين»… من دون أن ننسى اللوائح الانتخابية المقفلة بالشمع الأحمر الطائفي بل المذهبي.
لكأن الطلاق قد وقع بين «الدولة» و «النظام»: التهمت الطائفية، التي لها رعاتها والمستفيدون منها، الدولة، وبقي النظام الذي يحمي نفسه بخطر الحرب الأهلية اللهم إلا إذا ما وقعت سلسلة من الأعاجيب أولاها إعادة توحيد الشعب بتجاوز الحدود الملغمة للطوائف والمذاهب..
…وهذا حلم ليلة صيف! والنظام الطوائفي لا يعترف بالأحلام ولا هي قادرة على التأثير فيه، فكيف بإسقاطه.