وكأن عقارب الساعة أبت إلّا أن تلسع اللبنانيين كل اللبنانيين بمختلف أطيافهم وفئاتهم ومناطقهم وتياراتهم وأحزابهم دون أن تراعي دقة التوقيت المحلي والعالمي في آن معاً، ومحاذير ومخاطر ما جرى ويجري في بلد ضاع وتشتت في متاهات وانقسامات تكاد لا تبقي ولا تذر إذا ما تفاقم الإنقسام العامودي بين مجموعات من هنا وأخرى من هناك، وعندها فقط قد تتوقف عقارب الساعة ودورة الحياة والزمان ومعها تتوقف الدقائق والثواني والأعشار ليصل الأمر في نهاية المطاف الى غياهب المجهول في هذا الوطن الجريح والممزق من أقصاه الى أقصاه.
كان يا ما كان في قديم الزمان، بهذه العبارة كانت جدتي رحمها الله كما سائر الجدات تروي لنا قصص وحكايات في تلك الليالي القارسة البرد لكي نغفو وننام باطمئنان وهدوء في ذاك الزمان الجميل الغابر.
أما الحكاية أو القصة التي سترد الآن في هذه السطور ربما تنطبق الى حد كبير على الواقع المرير لا بل المأساوي الذي يعيشه الوطن كل الوطن في هذه الحقبة من الزمن الرديء، أما كيف ولماذا اخترت هذه الحكاية وهذه القصة بالتحديد ذلك لأن الذاكرة قد عادت بي الى الوراء سنوات طويلة خلت جعلتني أعود وأتذكر تلك السيدة التي كانت تمرّ في أزقة بلدتنا برج البراجنة في حينه بشكل يومي وبتوقيت محدد، فيما كنا نحن أطفال الحي نجتمع معاً لنلهو ونلعب سوياً بإنتظار وصول تلك السيدة التي لا نكاد نراها من بعيد حتى نقترب منها ونتوجه إليها بعبارة «اديش الساعة يا ست؟»، وهنا تثور ثائرة تلك المرأة الطاعنة في السن وتصاب بنوبة عصبية وينتابها ما يشبه الهستيريا لتلحق بنا واحداً واحداً بهدف إلقاء القبض على أحدنا وضربه ضرباً مبرحاً لا لشيء إلا فقط لأننا نسألها بتهكم وازدراء «اديش الساعة يا ست؟»، أما نحن فكنا نضحك ونستهزئ بردّة فعل تلك السيدة الانفعالية دون أن ندرك أو ندري ماذا نفعل ولماذا نقدم على ذلك في مثل تلك الساعة المشؤومة؟!
أما وقد أصيب لبنان من شماله الى جنوبه مروراً بسائر مناطقه بما بشبه «هستيريا» نتيجة قرار كل من الرئيسين النبيه والنجيب في ما يتعلق بالإبقاء على التوقيت الشتوي على حاله ريثما ينتهي شهر رمضان المبارك تحت ذريعة مساعدة الصائمين في هذا الشهر الفضيل لإتمام صيامهم بأيسر السبل المتاحة، وإذ بالقيامة تقوم، فقامت الدنيا ولم تقعد في المقلب الآخر من الوطن حيث أحدث هذا القرار الذي قيل انه عفوي وارتجالي زلزالاً مدوياً لدى مختلف المراجع والأوساط والجهات الروحية والسياسية والاقتصادية كما الاجتماعية منها، وبدأ الجميع يطلق ويفرغ كل ما في جعبته عبر شاشات التلفزة ومختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي اما بهدف الانقضاض على قرار النبيه والنجيب مطالبين بإلحاح الرجوع عنه قبل فوات الأوان أو بتأييد ذاك القرار من جهات وأطراف أخرى مدافعين عنه بكل الوسائل الممكنة سياسياً وإعلامياً واجتماعياً حتى آلت الأمور الى ما آلت إليه من انقسامات أكدت مرة جديدة مدى تجذّر لا بل تحكّم الغرائز الطائفية والمذهبية والمناطقية في النفوس قبل النصوص حتى كدنا بصراحة نلعن الساعة التي ولدنا فيها في بلد حلّت عليه وفيه لعنة الطائفيين والانقساميين وأخذ كل منهم يغني على ليلاه ويغرّد في عالم ضاعت فيه المقاييس والقيم لا بل وصل الى حد الانحدار الخطير نحو الهاوية دون التفكير ولو للحظة واحدة بأن الوطن بات في خطر ما بعده خطر وهو مهدّد بالزوال والانقراض حتى نكاد نقول اننا قد نستفيق يوماً لا سمح الله ونجد ان اسم لبنان قد أزيل عن خريطة العالم.
والسؤال الذي يجب أن يطرح بإلحاح في هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة من عمر هذا الوطن فهو: هل أتى قرار الرئيسين لكي يزيد في الطين بلّة؟ وهل هو فعلاً عفوي وارتجالي، أم انه قد أتى بناء على اتفاق وتشاور مسبق بينهما وفقط بينهما دون الرجوع أو الأخذ بعين الاعتبار سائر القيادات الروحية والسياسية والاقتصادية في البلد؟ وهل لدى الرئيسان النبيه والنجيب وهماً المخضرمين في عالم السياسة ويعلمان علم اليقين حساسية ودقة المجتمع اللبناني بكل أطيافه وفئاته ومناطقه وأحزابه وتياراته؟ وهل كانا يدركان ان مثل هذا القرار سيثير مثل هذه الضجة وما يشبه الثورة عليه مما أوصلنا الى هذا الزلزال دون أن يسجل «مقياس ريختر» مدى درجة الخطورة والتداعيات السلبية التي تركها ولا يزال قرارهما المفاجئ منذ لحظة الإعلان عنه من خلال بيان أمين عام مجلس الوزراء وارتدادات ذلك بدءا من عين التينة حتى أقصى الحدود في وطن الأرز لبنان؟!
وماذا بعد: ألم يكن الأجدى بالقادة والمسؤولين من سياسيين وروحيين في هذا البلد تدارك الاسوأ ووضع حد للمهاترات والتشنجات والسجالات بين السياسيين من جهة ومن ثم بين عدد كبير من المواطنين ممن تحركت لديهم الغرائز الطائفية والمذهبية والمناطقية على حد سواء، وراحوا يغرّدون على هواهم وانفعالاتهم دون هوادة، كما راحوا يبوحون في السر والعلن عن مكنونات ما تختزنه عقولهم وقلوبهم وصدورهم من تعصب طائفي ومذهبي بغيض ودفين وكأن الفرصة قد لاحت لهم في الأفق للتعبير والافصاح عن تلك الأحقاد وبذور الطائفية التي من شأنها أن تسلط الضوء من جديد على واقع مأساوي مرير اختبر وعايش الحرب الأهلية على مدى سنوات وسنوات قبل أن يعود من خلال «اتفاق الطائف» لكي يضع حدّاً ولو مرحلياً وينهي آتون تلك الحرب البغيضة بين اللبنانيين وما حملت معها في حينه من كوارث ومآسٍ وويلات وتسببت بخسائر جسيمة بالأرواح والممتلكات، وبالتالي هل ان موضوع تقديم الساعة أو تأخيرها يستأهل في هذا الشهر الفضيل إعادة بث ونشر مثل تلك النعرات التي مللنا سماعها خاصة على السنّة السياسيين من رؤساء ووزراء ونواب وسائر الشخصيات الحزبية والروحية الذين بات لا همّ لهم إلا تحقيق مصالحهم ومكتسباتهم وصفقاتهم وهذا ما اكدته التجارب الطويلة التي اختبرها الشعب اللبناني بهم على مدى فترات طويلة من الزمن وليس فقط لساعة واحدة من هنا أو من هناك.
أخيراً وليس آخراً، بات من الضروري على معظم اللبنانيين الذين يعانون من الجوع والفقر والفاقة والمرض ناهيك عن الفراغ الدستوري الذي فرض نفسه أمراً واقعاً في بلدهم حتى الآن مروراً بسائر الاضرابات في مختلف القطاعات الحيوية وإدارات الدولة وغيرها دون أن يجد المواطن اللبناني معيناً له، وعليهم أن يدركوا جيداً انهم باتوا وقوداً لتلك المنظومة السياسية الحاكمة والمتحكمة بأمورهم وكأني بهم ينتظرون ساعة الارتطام على توقيت ساعة «بيغ بن»، مما سيجعلهم الحلقة الأضعف التي ستستخدم في هذه المرحلة بالذات لكي يتناسوا ما يعيشون به من ضائقة اقتصادية واجتماعية ومالية وحياتية وصحية وهذا ما يعانون منه لحظة بلحظة وساعة بساعة فيما المسؤولين والسياسيين يضبطون ساعاتهم الماسية والذهبية ذات الماركات العالمية على مواعيد الصفقات والمكاسب والمصالح الذاتية دون غيرها. بينما عدد كبير من الناس لا يزال يعتمد على الثرثرات وعلى أنغام ووتيرة «بالروح بالدم نفديك يا زعيم».
بإنتظار الساعات القليلة القادمة وما سيؤول إليه الوضع الخطير في لبنان لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود على الجميع أن يبحثوا في متاهات الوطن لسؤال أحدهم أو احداهن «من فضلك أديش الساعة أو أديش الساعة يا ست؟».
ونجّانا الله من الأعظم!!
وحسنا فعل النجيب ومجلس الوزراء عندما تراجعوا عن القرار أمس الإثنين وأعادوا العمل بالتوقيت الصيفي المعمول به منذ عقود، إلا أن العبرة التي يجب أن نستخلصها هي أن لبنان، وكما يقول المؤرخ اللبناني الراحل كمال صليبي، هو بيت بمنازل كثيرة وفي كل منزل يعشعش الخوف من الآخر.. لذلك، لا بديل عن سؤال كيف نزيل هذا الخوف من النفوس والنصوص حتى ننتقل إلى رحاب لبنان الوطن لا المزرعة.. ما عدا ذلك فإن لبنان مهدّد حتماً بخطر التقسيم كما كان يردد العميد الراحل ريمون إده.