«مِن أَيَّةِ الطُرقِ يَأتي نَحوَكَ الكَرَمُ أَينَ المَحاجِمُ يا كافورُ وَالجَلَمُ
جازَ الأُلى مَلَكَت كَفّاكَ قَدرَهُمُ فَعُرِّفوا بِكَ أَنَّ الكَلبَ فَوقَهُمُ
لا شَيءَ أَقبَحُ مِن فَحلٍ لَهُ ذَكَرٌ تَقودُهُ أَمَةٌ لَيسَت لَها رَحِمُ
ساداتُ كُلِّ أُناسٍ مِن نُفوسِهِمِ وَسادَةُ المُسلِمينَ الأَعبُدُ القَزَمُ
أَغايَةُ الدينِ أَن تُحفوا شَوارِبَكُم يا أُمَّةً ضَحِكَت مِن جَهلِها الأُمَمُ
أَلا فَتىً يورِدُ الهِندِيَّ هامَتَهُ كَيما تَزولُ شُكوكُ الناسِ وَالتُهَمُ
فَإِنَّهُ حُجَّةٌ يُؤذي القُلوبَ بِها مِن دينُهُ الدَهرُ وَالتَعطيلُ وَالقِدَمُ
ما أَقدَرَ اللَهَ أَن يُخزي خَليقَتَهُ وَلا يُصَدِّقُ قَوماً في الَّذي زَعَموا»
(المتنبي)
رائعة قصائد المتنبي حين يهجو ويفرج عن سرائر قلبه، وكأنني اليوم أرى هذه القصيدة في واقع الحال في المهزلة التي نعيشها.
المهزلة هي مصطلح درامي يشير إلى عرض كوميدي ساخر ونقدي كان يُقام بين جزئي عرض درامي. توظّف المهزلة كل أنواع الخدع والعناصر الدرامية والتعبيرات البدائية والعامية، من شخصيات ومواقف قائمة على الكوميديا والسخرية وعرض نماذج لشخصيات يذهبون إلى ما هو أبعد من الكوميديا إلى أن يصلوا في غالب الأحيان إلى عبثية للسلوك الإنساني. أما الإسفاف فهو أقصى ما يمكن الهبوط به من القدر والمستوى، وهنا بما يخصّ الفكر والعمل والحوار. فعندما تسفّ المهزلة تصبح مثيرة للقرف والامتعاض، بدل أن تكون مثيرة للضحك والترويح عن الذات، في وسط مسرحية تراجيدية فيها أقصى ما يمكن من اليأس والحزن.
شهدنا جميعًا الإسفاف في المهزلة المنقولة، لسبب ما، على شاشات التلفزيون، ربما عن قصد ليظهر للناس مدى الاستهتار الفظيع في إدارة الشأن العام، وربما لدفع الناس إلى مزيد من اليأس والهجرة أو حتى اللجوء إلى البحر هربًا وخجلًا من ان يكون من هم قيّمون على رقاب العباد هم من هذا الصنف من المخلوقات! لكن الأخطر هو في تداعيات هذا الكلام، أكان مقصودًا أم عرضيًا، فإن عرفا فتلك مصيبة، وإن جهلا فالمصيبة أعظم.
ببساطة، ما رأيناه وسمعناه كان أشبه بفصل من مسلسل «حمّام الهنا» أو «صَح النوم»، حيث يتحاور ياسين بقوش مع فطوم حيص بيص في مسائل تخص شؤون الحمام أو حسبة غلة تنور. تذكرت أيضًا جدتي الحاجة أم محمد في جلساتها مع جاراتها وهن يتحدثن عن مقدار الملح والبهار في طبخة ما، أو ربما جدل في موضوع عام في مجلس جمعَ أبو سطيف وأبو العبد، مُشبع بحشيشة الكيف!
ذوو الألباب فهموا من المشهد لأول وهلة بأنه يؤكد على تهتّك الوضع في البلد إلى الحضيض بعد انقراض سلالة رجال الدولة على الطريقة الداروينية، وبقيت سلالات هلامية لا لون لها سوى اللباس الذي يؤمّن لها البقاء والاستمرار كالطفيليات على حساب الآخرين. أمّا ما حدث بعد ذلك فهو يَشي بأن ردات فعل العموم جاهزة لفتنة متجددة بلباس التوقيت الصيفي! وكيف نستغرب؟ فالتلفيقة التاريخية الشعبية التي ابتلعناها في صغرنا هي أن لعبة «الكلة» بين أولاد الدروز والموارنة تسببت بمجازر جبل لبنان سنة 1840. فتصوّر البعض من القبائل الطائفية اللبنانية أنّ القرار الصبياني الاعتباطي يعني تحالفًا سنيًا ـ شيعيًا يأتي على خلفية التفاهم المستجد بين إيران والسعودية، سيكون المسيحيون ضحاياه! فيما ذهب البعض الآخر، من قبائل طائفية أخرى، الى أنه حان الوقت لفرض الوجود من خلال فرض التوقيت، وأنّ زمن القبائل الأخرى إلى زوال، بمجرد اتفاق قبيلتين، مختلفتين على كل شيء، إلا على الانتصار في موقعة التوقيت الصيفي!
هنا، عاد ذوو الألباب من جديد لتقييم الأمر، بعد أن خرج جبران وأمثاله من معازلهم التي فرضتها المتغيرات ليصولوا ويجولوا في شعبويتهم المقيتة ليقولوا إنهم على حق فيما قالوه في السابق عن حقوق قبائلهم المسروقة، وأنهم الأحق بقيادة القبيلة في مع المعركة، وأنّ غياب رأس القبيلة القوي هو الذي سمح لقبائل أخرى بالاعتداء على المضارب، من باب التوقيت الصيفي المقدس! في المقابل، عاد أصحابي، أن اعتبرهم من ذوي اللباب العلمانيين المعادين للطائفية على حد علمي، المنادين بالدولة المدنية والزواج المدني وإلغاء الطائفية السياسية، للحديث عن زمن الهيمنة المارونية الذي ولّى، وما إلى هناك من أحاديث تشبه جدل ياسين بقوش مع فطوم حيص بيص، أو أبو العبد يثرثر مع أبو سطيف في مقهى الحشاشين، ليخرجا بعد الجلسة ليطلقا الرصاص في الهواء، ولكن في اتجاه مضارب القبيلة الأخرى…
أما أنا، فقد شعرت بالإهانة في الصميم لكون من هم في موقع الحل والربط حتى اليوم هم من أمثال أبو العبد وأبو سطيف، جهلًا وخبثًا وشعبوية، وأن النُخب التي يعوّل عليها المجتمع للنهوض في يوم ما، إما هاجرت، أو أصبحت مثل حكامنا، فيما تعود الحياة إلى جبران وأمثاله، وسيخرج حتمًا من سينادي باستحالة العيش معًا، وربما أن البطريرك الحويك لم يحسبها جيدًا!