Site icon IMLebanon

قمّة القدس واستعادة الشرعيّة العربية

 

 

إمتناع روسيا عن الرد على الضربة العسكرية الثلاثية أقصى كلّ السيناريوهات المتخيّلة التي بُنيت على فرضيّة تماهي الرئيس فلاديمير بوتين مع محور الممانعة بنسخته اللبنانية – السورية – الإيرانية. تنصَّل بوتين من كلّ الشعبويّات التي أطلقها، وأعاد تقييم المشهد إنطلاقاً من المصلحة الروسية الصرف. لم يرغب الرئيس بتعريض اعتراف المجتمع الدولي بشراكة روسيا وبمكاسبها على الساحة السورية للخطر. فالدخول في صراع مع الغرب لحماية نظام سياسي متحلّل أو حماية حلفائه دونه ثمن سياسي، وربما استحسن الرئيس بوتين أنّ يترك النظام لمزيد من الوهن والإنهيار، مما يزيد من طواعيته واستسلامه للإملاءات الروسية في المستقبل.

الضربة الثلاثية على الذراع الكيماوية للنظام السوري بدت مع ما تلاها من إجراءات وتطورات دوليّة كأنّها مقدّمة لمسار عسكري وديبلوماسي وسياسي دولي. على المستوى العسكري، دخل التحالف الثلاثي كمكوّن جديد على المعادلة في سوريا. لم يعدّ التصدي للإرهاب هدفاً حصرياً للتدخل، بل أُضيف إليه تهذيب النظام السوري وإعادته الى قيود النظام الدولي كهدف جديد. المظلّة الدوليّة الأوروبية الواسعة التي واكبت الضربة والتي قدّمت لها المسوّغات الإنسانية، أضفت عليها شرعية ومشروعية قد لا يوازيهما أي إجماع في مجلس الأمن أو أي تنازل روسي عن استعمال لحق النقض. تَزاحَم المسؤولون الأوروبيون على رفض الصورة التي قدّمتها روسيا باستعادة مشاهد الأسلحة الكيماوية ليس في الغوطة وحدها، بل في شوارع لندن.

تلقف وزير الخارجية الفرنسي ردود فعل النظام المحتملة، داعياً في حديث الى صحيفة «Journal de Dimanche» إلى مشاركة المجتمع الدولي في إيجاد حلّ سياسي للمسألة السورية، معيداً الاعتبار الى قرارات جنيف، ومحذّراً من تكرار مأساة الغوطة في إدلب، تحت عنوان مطاردة بقايا جبهة النصرة، بعد أن أصبحت المعقل الأخير لكلّ فصائل المعارضة. الرئيس الفرنسي بدوره أعاد تصويب الإختلال في التوازن العسكري في سوريا بعد تأكيده أنّ الرئيس دونالد ترامب ليس في وارد سحب القوات الأميركية من سوريا. يُستدلّ من المشهد وكأنّ هناك إصراراً دوليّاً على إعادة إحياء النظام الدولي والمؤسسات التي انبثقت عن إتفاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن بدا لسنوات خلت أنّها فقدت صلاحيتها.

قمّة القدس التي انعقدت في الظهران أول من أمس، لاقت بدورها الموقف الدولي في ما يتعلّق بالهجوم الثلاثي على القدرات الكيميائية السورية. الممثّلة العليا للسياسة الخارجية للإتّحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، دعت من المنبر العربي في الظهران إلى محاسبة المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، مطالبةً جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة العربية بالتفكير في مستقبل سوريا، من خلال مباحثات جنيف، وتحت قيادة الأمم المتّحدة.

أعادنا بيان قمّة القدس الى أدبيات خمسينات وستينات القرن الماضي. كلمات القادة العرب وفي مقدّمهم خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استعادت عناوين كبرى كانت قد أضحت طيّ النسيان. كان لافتاً إعادة الأمن القومي العربي ببعده الشامل الى الواجهة. الرئيس السيسي أشار الى التهديدات الوجوديّة التي تتعرض لها الدول العربية لصالح كيانات طائفية وتنظيمات إرهابية، كما حدّد بكلّ إقدام مصدريّ التهديد تركيا وإيران، مشيراً إلى الوجود العسكري الإيراني والى مناطق النفوذ التركية في سوريا على حساب الدولة الوطنيّة.

الرئيس السيسي الذي تشارك مع خادم الحرمين الشريفين في استحضار مفهوم الأمن القومي العربي وفي رفض القرار الأميركي المتعلّق بالقدس والإصرار على حلّ الدولتين، نجح في تصدّر الدعوة الى استراتيجية شاملة للأمن القومي العربي من العراق إلى اليمن، ومن سوريا إلى ليبيا، مشيراً الى مبادرات مصر في هذا المجال واستعدادها لتوفير مقوّمات الدفاع الفعال، داعياً الأمم المتّحدة أن تتحرك بالتنسيق مع الدول العربية، لبدء مسار سياسي لحلّ الأزمة السورية بحضور السوريين والعرب كشركاء أساسيين.

يلاقي العالم العربي من خلال بيان قمّة القدس المجتمع الدولي. يبدو وكأنّ هناك اعتراف دولي بالإخفاق في إنتاج أطرّ بديلة عن تلك التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كذلك هناك اعتراف بالفشل في السيطرة على الكيانات الطائفية التي تمّ إنتاجها منذ تجربة أفغانستان، مروراً بكافة التجارب الإسلامية السنيّة والشيعيّة، أو تلك الإثنية التي يمثّلها النموذج الكردي. لم تفلح كلّ هذه المكوّنات الهجينة في الحلول مكان مشروع الدولة الوطنية. الجنوح الدولي واضح نحو إعادة الإعتبار للدولة الوطنية وللمنظّمات الدوليّة والإقليمية بعد أكثر من أربعين عاماً من إختبار البدائل.

هل تُعيد  قمّة القدس الاعتبار للشرعيّة العربية ولمفهوميّ العروبة والأمن القومي العربي خارج البعديّن الديني والإثني.

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات