IMLebanon

نثريات بلدية لبنانية

يتواجه في الانتخابات البلدية اللبنانية، التنظيم بمعناه التقليدي، مع اللاتنظيم بمعناه الاختياري التطوعي، وليس من نافل القول إن الضبط الإداري في كل عملية انتخابية، يلعب دوراً بارزاً في تأمين نقل حركة الشارع إلى داخل صناديق الاقتراع.

وكي يظل الموضوع واضحاً، فإن الأمر يقتضي القول إن التنظيم، أي كل المسألة اللوجستية، هو انعكاس للسياسة التي تقود هذا «الجسم» المنتظم أو ذاك، أي للسياسة التي تجعل حسن الانتظام الأدائي العملي، مرادفاً لحسن الانتظام الفكري السياسي، داخل الحركة أو الحزب أو التجمع أو التيار… الذي يتصدى للانخراط في كل عملية سياسية. ولكل تنظيم ما يشد عراه، ولكل انتظام تفسيره وللإثنين أشكال تتفاوت بين كتلة منظمة لبنانية وأخرى.

وبقدر ما تشدد الكتل المنظمة على ضرورة الانضباط، لأنها ترى فيه عنصراً أساسياً من عناصر نجاحها، تترك الكتل غير المنظمة الحرية لأعضائها، بحيث يكون الانخراط في العمل متناسباً مع الوعي بضرورة العمل، من قبل أولئك المنتظمين طوعياً، والمتفرقين اختيارياً. في الجهة الضابطة المنضبطة، التزام التوجهات وتنفيذها يشكل تتمة للفكرة وللسياسة، والقبول بالخطة العملية أو رفضها، من قبل المنتمين إلى الجهة «الفضفاضة»، لا يتعدى وجهة النظر الفردية، وإذا كان متاحاً للفرد الحر بفرديته هنا، أن يذهب إلى ما تمليه عليه فرديته، فإن الحرية هذه، مقيدة لدى الفرد الآخر الذي اختار الجماعة الملْزِمة كإطار للتعبير عن تطلعات فرديته. حصيلة الأمرين ليست واحدة، ومنطلقات الوجهتين ليست واحدة أيضاً، إن التعارض بين المبدئية ومرجعياتها لدى طرف، متعارضة مع فكرة المبدئية وشرطها ومرجعياتها لدى طرف آخر. بناءً عليه، تأتي النتائج متباينة بعد كل مواجهة سياسية، وتباينها يكون على صعيد سياسي واجتماعي، وما يكون أساسياً، كالإمساك بالسلطة لدى فريق قد يكون جزءاً من الأساسيات المعترضة لدى الفريق الذي يواجهه، وليس الأساسيات كلها.

إذن، من المفترض أن تتعدد الزوايا التي تتم من خلالها مقاربة الحدث الانتخابي البلدي، فلا يُكتفى بقراءة أحادية، لأن هذه الأخيرة كثيراً ما تنطوي على اختزالية مشتركة من قبل المتنافسين ضمن العملية الواحدة، وفي كل اختزالية تقليل من شأن التركيبة المتداخلة والمعقدة، التي يسلط فهمها الضوء على المفاصل المهمة التي تتيح إعادة إنتاج سيطرة المسيطرين، مثلما تعيد تكرار مشهد مراوحة مردود جهد المعترضين، تحت سقف يعلو مرة وينخفض مرات أخرى.

سيكون مفيداً الوقوف أمام استطلاع المعطيات التي ستتمخض عنها الانتخابات البلدية على صعيد وطني عام، لكن مما لا تخطئه العين بعد المقدمات الانتخابية الأولى، أن حقيقة تأطير الجسم الاعتراضي وتنظيمه باتت تفرض مهماتها على المشتغلين بأمور الإعتراض، والتأطير يتضمن الفكرة من أساسها، بحيث تخضع للبلورة والتظهير، وتكون معروفة وواضحة من دون أي التباس، فالهلامية الاجتماعية الاعتراضية، لا تؤدي إلى سياسة «مركَّزة»، والشعارية التي ترفض على وجه العموم، تخفق أيضاً على وجه الخصوص والعموم، في الوقت الذي بات مطلوباً من الجميع، تحديد ما المطلوب، وتعيين ما المرفوض، ليكون ممكناً لاحقاً، قياس النجاح أو الإخفاق، بالمقابلة بين المطلوب والمرفوض، وما تحقق على صعيد المعادلة التي تجمع بين طرفي «تناقضهما». الوضوح الفكري والبرنامجي الذي لا يتطلب مرجعيات شاملة أو شمولية، في الحالة اللبنانية الراهنة، له تتمته في أشكال التنظيم التي تحمله إلى حيز التنفيذ، وكلمة تنظيم يجب ألا تستفزّ أحداً، وألا تستحضر في أذهان المشاركين التجربة الحزبية اللبنانية فقط، ومن الأساسي أيضاً، ألا يتمّ الدمج بين بنية الأحزاب الموروثة وأدائها، وبين مسألة الحزبية بما هي معادلة الفكرة والتنظيم والانتظام أيضاً، لأن ما سوى ذلك ضرب من السيولة العملية، وشكل من سيلان التخبط الكلامي، ومنوعات من التجريبية التي لا تراكم خبرة محددة، بل تعيد كل تحرك جديد إلى صفر شعبي معارض في كل مرة.

خارج الاحتفالية، ثمة إشكاليات تنتظر النقاش من كل الذين يتطلعون إلى بناء حركة شعبية ديموقراطية لبنانية جديدة، وخارج العدمية، هناك ما يمكن البناء عليه، لأن الأصوات الشعبية التي هتفت في الشوارع، أو همست في صناديق الاقتراع، لا يمكن أن تصير ظاهرة منسية. لتكن حركة حاشدة ضد «النسيان».