حتى مساء الأربعاء، ليلة رسالة قصر بعبدا ورد بيت الوسط، كان المشهد السياسي موزّعاً بين فريقين فحسب الشيعي والمسيحي. من البديهي القول إن الثنائي الشيعي كان لا يزال متصدّراً بتوزّعه بين إطلالات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ومعها زيارة وفد الحزب إلى موسكو، ومبادارت الرئيس نبيه بري، ومحاولات التوفيق التي يقودها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم. في المقلب المسيحي، لا يمكن تجاهل الغليان السياسي ولو من دون ترجمة، من قصر بعبدا وبكركي إلى التيار الوطني الحر والكتائب والقوات اللبنانية والمردة، والشخصيات واللقاءات السياسية كمثل سيدة الجبل التي لا تنفكّ تطرح مواقف سياسية وأفكاراً للنقاش.
في المقابل كان المشهد السني حتى الأيام الأخيرة، مغيّباً كطرف سياسي، تاركاً المواجهة بين حزب الله ورئاسة الجمهورية من جهة، وخصومهما من جهة أخرى. فهناك الرئيس المكلف سعد الحريري الذي يجول خارجياً، في موازاة شخصيات سياسية، ورؤساء حكومات سابقين، ونواب ووزراء سابقين، يتحركون مع شخصيات مسيحية، في اتجاهات معظمها يصبّ في خانة مناهضة حزب الله. ومنها ما يتم عبر زيارات إلى بكركي أو تصريحات حادّة بعضها محصور بالمناسبات، كمثل اجتماعات رؤساء الحكومات السابقين، عند المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة. لكن أبعد من ذلك لا يشبه المشهد السنّي مشهد ما بعد الطائف أو مشهد ما بعد عام 2005. ولا علاقة له عملياً بمحاولة الإمساك بالتوازن مع الثنائية الشيعية، في الحكومة المقبلة، في حال تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية. لأن فكرة سحب الثلث المعطّل من يد رئيس الجمهورية، أو رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، تقوم على الإمساك بمفاصل الحكومة كتوازن سني – شيعي، في غياب رئيس الجمهورية. لكن أيّ فريق سنّي يصل إلى الحكومة، من دون ثقل داخليّ وخارجيّ، يعيش إلى هذا الحدّ من الاطمئنان، بأنه عاجلاً أم آجلاً سيمسك بمفاصل السلطة، ولو من دون حضور سياسي جدي؟ فإذا كان الرئيس رفيق الحريري بنى دوره السياسي بعد الطائف، على ميزان العلاقة السعودية والنفوذ السوري وعصب المال، كما كانت الحال مع منظمة التحرير الفلسطينية خلال الحرب، فإن تيار المستقبل استمدّ قوته أيضاً، بعد عام 2005، من الحضور العربي، قبل السين السين وبعدها، ومن ركيزة مسيحية أساسية، مثّلتها بكركي والقوى السياسية التي كانت إلى جانبها، ليصبح لاحقاً قائماً على توازن مع الثنائي بفعل الضرورات. كل هذا قبل أن يتهاوى هذا الثقل على وقع الخلافات داخل الصف الواحد، ومن ثم تداعيات التسوية الرئاسية وخلافاتها، وانحسار الغطاء السعودي.
ليس جديداً الكلام عن سوء علاقة الحريري بالرياض، ولا سيما بولي العهد محمد بن سلمان، وتاريخ القصة طويل، في تسريبات وكلام قيل في لقاءات قبل التسوية الرئاسية وبعدها، وكل ما يتعلق بشؤون الحريري المالية في الرياض وعلاقته المالية ببعض الأمراء التي وُضع خط أحمر عليها. لكن بقي للحريري غطاء ما كرئيس حكومة، يحاول التعويض عنه في الإمارات بعدما رتّبت بعض أوضاعه فيها، ومحاولاً أيضاً اللعب على خطوط تركية – مصرية، للإبقاء على مظلة فوق رأسه. لكنه لم ينجح بعد في تحقيق ما يصبو إليه. عادة يخشى المسيحيون عدم وجود رافعة خلفية تحمي وجودهم. بعضهم روّج لحلف الأقليات من هذا الباب. لكن هذا ليس حال السنة، المفترض أن يكون ظهرهم محمياً، في منطقة عربية، حتى لو خرق تواصلهم معها، ساحات النفوذ الشيعي، من سوريا إلى العراق. من هنا، بدت في بعض الأوقات خطورة ما أرساه تنظيم الدولة الإسلامية من أحلام لدى البعض في خلق حالة مماثلة تبايع أو تدين بالولاء لهذا الجو الذي انتعش في المنطقة. اليوم تختلف حالة الخليج، حيث تتقدم محاولات التطبيع مع إسرائيل، وحيث لا تزال السعودية رغم محاولات احتوائها أميركياً، تقف على خط علاقات من روسيا إلى واشنطن وأوروبا والصين، وحيث تبعث إشارات تقارب تركية مصرية، فتعود القيادة العربية متعدّدة الرؤوس. بين هذا التشابك العربي، يمكن أيضاً الكلام عن تشابكات سنية في لبنان، لا يمكن التغاضي عنها، في الكلام عن تشكيل الحكومة.
صحيح أن خطاب رئيس الجمهورية كان حادّ اللهجة تجاه الرئيس المكلف، لكن أبعد من رد الحريري العالي السقف أيضاً، وكلام الرئيس نجيب ميقاتي والنائب نهاد المشنوق، لم تكن ردة الفعل على مستوى دعوة جلب الحريري إلى بعبدا أو الاعتذار، ولا تتناسب مع خطورة تداعيات كلام عون الذي استهدف فيه حلفاءه وخصومه. فخطوة عون، التي زادت إصرار الحريري على التمسك بتكليفه، قوبلت ببيان حاد يكاد ينبئ بأزمة مفتوحة بملامح طائفية وليس فقط دستورية وسياسية، لكنه ألحقه بزيارة، تحت وطأة الخطوط المفتوحة بين العواصم التي تواصل معها من روسيا إلى باريس التي تحرص على التهديد عبر إعلامها الخاص بعقوبات على مسؤولين لبنانيين. فهو حين رفع سقف خطابه ضد رئيس الجمهورية داعياً إياه إلى الاستقالة، كان يتوجه إلى خارج الحدود، وإلى السعودية، في تأكيد أنه قادر على مثل ما يقوم بها حلفاؤها المرضي عنهم في لبنان بالمطالبة باستقالة رئيس الجمهورية، مع البقاء رئيساً لحكومة تضم حزب الله. خطوة الحريري وزيارته، لم تُترجم سعودياً، ولا يبدو أنها ستُترجم. موقف الرياض لا يزال هو نفسه، وأي حكومة سيشكلها الحريري ستكون كسابقاتها. فإذا كان يريد حكومة إدارة أزمة ووقف الانهيار بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، فالطريق إليه تمر بالرياض التي عادة هي صندوق المال. وغطاء مصر أو تركيا، لا يشكل بديلاً عن الرضى السعودي الذي يزال محجوباً عنه، تماماً كما دخوله إليها. ثمة فارق كبير بين التجاوب مع فرنسا، في تهديدها بالعقوبات وامتعاضها من المسؤولين اللبنانيين، لتسريع تشكيل الحكومة، وبين الإيحاء بأن الرياض قد ترفع العقوبات عن الرئيس المكلف. التحدّي اليوم يكمن في غياب الرافعة السنية الحقيقية عن الحكومة التي حاول عون فعل المستحيل لدفع الحريري إلى التخلي عنها. لكن بقدر ما يعرف الحريري تماماً خلفية الأبواب الموصدة في وجهه سعودياً، زاد من إصراره على موقفه، لعلّ أحداً ينجح في إقناع الرياض حيث فشل هو.
وفي الانتظار، ينام الجو السني، مع الحريري أو من دون وهجه المتآكل، مرتاحاً ومطمئناً. فحجم المسيحيين – مهما علا صراخهم – محدود، والفراغ الرئاسي بات من المسلّمات عند اشتداد الأزمات. وهذا يعني أنّ دورهم في ظل التركيبة القائمة دستورياً وسياسياً، بالحجم والعدد، سيبقى قائماً، خصوصاً في ظلّ الحاجة إلى تحييد الصراع السني الشيعي، بوجود حكومة مستقيلة أو فاعلة… ولو من دون زعامة لها حضورها.