هذه صورة “لحظات عابرة” في الحياة اللبنانية السياسية والطائفية نشهدها كل يوم. يهيأ لنا انها قد تكون فاتحة خراب داخلي وحروب، ثم يعود الوضع الى طبيعته على قاعدة الرضى المتبادل بين الطوائف، خصوصاً بين السنة والشيعة. ويستحضر الصراع المذهبي الممتد في كل المنطقة، والذي يأخذ في لبنان ابعاداً مختلفة، كل الموروث التاريخي بين الطرفين، ويدخل عندنا الى المدارس والجامعات، على رغم الحوار السياسي والطائفي القائم وصيغ الرضى المتبادل والحديث عن ضرورة انتظام الحياة السياسية، وانتخاب رئيس للجمهورية. وسرعان ما يستحضر الخلاف عند حصول تطورات في المنطقة، فحرب اليمن انعكست سجالاً طائفياً في الجامعة وفي المدرسة، تغذيه صراعات النقاء الطائفي في سوريا والعراق. وفي المصطلحات المتداولة، عملة ابتزاز وتخاطب رائجة، بسعر طائفي صرف مرتفع ومجز على كل صعيد.
والمبارزة السياسية الطائفية لها جمهورها بين التلامذة والطلاب، عندما ترتفع حمأتها بإثارة الغرائز، ينخرطون مباشرة فيها، فتصبح الديموقراطية الأكاديمية أولى ضحايا الانشقاقات الطائفية، وتصبح عملية إعادة بنائها أصعب مما كان عليه وضعها سابقاً قبيل الاصطفاف الطائفي النقي من كل الضفاف.
كيف نفسر، على سبيل المثال، مجاهرة طلاب جامعيين بإعلان رفضهم لمدير في الجامعة اللبنانية من غير طائفتهم؟ وكلامهم ليس في السر، بل قيل في العلن أمام وزير الوصاية، الى ممارسات لتلامذة في مدارس رسمية نقية مذهبياً في أكثر من منطقة يؤدون فيها رفض الآخر من المذهب المختلف، وإن بصيغة غير عنفية. يعني ذلك أن مناخاً طائفياً فرض معايير، من خلال تعبئة استحضرت النزاع المسلح بين مشاريع سياسية كبرى تخفي صراعاً مذهبياً، لا سيما بين السنة والشيعة، يأخذ لبنان وطلابه وتلامذته الى ممارسات خطيرة، من الشارع الى المؤسسات، والمدارس والجامعات. ويتعزز دور جمعيات دينية وقوى مذهبية على حساب الدولة ودورها، فتلجأ الى تربيتها الخاصة لتعوض عدم قدرتها على التأثير سياسياً، فيستحضر الخلاف على الدعوة والتفسير والتأويل، وترفع متاريس متقابلة الى حد ما عاد ممكناً أحياناً جمع شباب المذهبين السني والشيعي في مكان واحد. ولعل ما يعلنه الاحتشاد المذهبي في المدارس والجامعات يذكي التشدد ويستنبت الخرافة، ويروج الأسطورة، يرفع من قيمة “الذات الخاصة” ولا يتعايش مع “أضداده” الا على سبيل المجاملة، والاضطرار، تماماً كما يحصل على المستوى السياسي. فنسمع مفردات لا تمت بصلة الى تعايش الطوائف، ضمن قنوات الحد الأدنى من اللغة المقبولة والمصالح. وهذا الاحتشاد ينهل من الانقسام الطائفي ويغذيه في آن، وتراكمه يحدث شرخاً عميقاً في البنية اللبنانية، ويطلق مخاوف إضافية، في الحياة المجتمعية والأكاديمية من إثارة النزاع السني – الشيعي، لم تكن معهودة في التجارب السابقة. فمن يتولى إنقاذ شعار الوطنية بعيداً من مصالح هذا المذهب أو ذاك؟