IMLebanon

«الغضب السني» المشروع يفرض نفسه

«الغضب السني» المشروع يفرض نفسه: تراجع الحريري عن الصدام مع بيئته وترجمة مواجهة باسيل في التعيينات

 

فرض «الغضب السني» نفسه على جميع أركان التسوية فسارعوا إلى محاولة إحتوائه، كلٌ من جانبه، فظهر الرئيس سعد الحريري بعد غيابٍ طويل، وأرسل الرئيس ميشال عون الوزير سليم جريصاتي إلى دار الفتوى محاولاً إحتواء غضب سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان من تصريحات رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، بعد أن أدّت إستفزازته إلى إهتزاز التسوية بشكلٍ عنيف.

 

هذا الغضب السني الذي كان عارماً وجد ترجمته في مواقف القيادات السياسية التي بدأها النائب نهاد المشنوق من دارالفتوى ثم كان بيان رؤساء الحكومات السابقين ثم خطبة سماحة مفتي الجمهورية في العيد وموقف اللواء أشرف ريفي من طرابلس وإستكملتها نخب سنية إعلامية ومدنية وسياسية، وعموم أهل السنة الذين رفعوا الصوت وعبـّروا بلهجة عالية عن رفضهم لإستهداف رئاسة الحكومة، مقاماً وشخصاً، لكنهم في الوقت نفسه، طالبوا بوضوح تام بضرورة تصدّي الرئيس سعد الحريري للعدوان المزدوج الذي يشنه أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله وصهر رئيس الجمهورية وزير الخارجية جبران باسيل.

 

إعتمد الرئيس الحريري سياسة تقطيع المشاكل، مفضلاً التركيز على إنجاز الموازنة وتنفيذ أجندة مؤتمر سيدر، على قاعدة إعطاء الأولوية للقضايا الإقتصادية ولمواجهة تحديات التدهور الحاصل في هذا القطاع.

 

لكن نوايا الرئيس الحريري شيء، ونوايا وأفعال جبران باسيل شيء آخر.

 

فوزير الخارجية لا يترك مناسبة إلا ويستغلها لتوجيه السهام لأهل السنة في لبنان: فهو تبرّأ من دفن السنية السياسية وإحياء المارونية السياسية، من دون أن يتراجع قيد أنملة عن حملاته الشرسة على مسؤوليهم في الدولة، وخاصة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، وجاءت الفضيحة القضائية في قضية سوزان الحج لتكشف مدى الوقاحة في إستخدام القضاء لإذلال الناس وتحديداً البيئة السنية، وفجّر وزراء التيار الوطني الحرّ كلّ مواهبهم في جلد طرابلس بعد جريمة الإرهابي عبد الرحمن السمروط، فإستحضروا كل أنواع التعبئة الرخيصة تجاه الفيحاء وتجاه مظلومية الموقوفين الإسلاميين.

 

< فشل حملة المقدمات والبيانات القامعة:

 

أمام الإستفزاز الهائل الذي مارسه الوزير جبران باسيل، تصاعد الإعتراض السني السياسي والإعلامي، فلجأ إعلام تيار المستقبل إلى تدبيج مقالاتٍ ومقدماتٍ تلفزيونية نارية تهاجم كل من كتب أو صرّح إعتراضاً على تحوّل التسوية إلى مسارٍ لضرب مصالح أهل السنة في السياسة وداخل الدولة.

 

شكّلت ردود إعلام المستقبل صدمة كبيرة في الوسط السني، حيث لجأت إلى تخوين سياسيين وإعلاميين صرّحوا كتبوا محذّرين من هذا الإنحراف الخطر الذي يهدّد إتفاق الطائف والوحدة الوطنية.  لكن موقف الرئيس الحريري في مؤتمره في السراي الحكومي ألغى عملياً مفاعيل خطاب التخوين وأعاد الإعتبار للحق في التعبير، عندما إعتبر الرئيس الحريري أن تيار المستقبل تيار ديمقراطي مقراً بوجود أسبابٍ حقيقية للغضب السني، أهمها ممارسات باسيل التي قال الحريري إنها شكلت مصدر إزعاجٍ شديد له ودفعته لعقد المؤتمر والردّ على ما جاء فيها.

 

< العلاقات داخل البيت السني حسم الرئيس الحريري الموقف فأكد الآتي:

 

وحدة الصف مع رؤساء الحكومات السابقين ومفتي الجمهورية في الحفاظ على إتفاق الطائف ومقام رئاسة الحكومة.

 

سحب فتيل الإشتباك مع النائب نهاد المشنوق من خلال تجاهل حملات الإعلام الأزرق عليه، والتأكيد على حقه وحقّ أي شخصية سنية في الطموح للوصول إلى رئاسة الحكومة، وهذا لا يقف عند المشنوق، بل يشمل أيضاً سائر الشخصيات السنية.

 

وقف لغة التخوين تجاه الإعلاميين والنخب السنية وإعطاؤها الحق في التعبير والتصويب.

 

< الإستحقاقات الداهمة:

 

إضافة إلى إقرار الموازنة وتأمين إنجاز الموازنة التي بقيت دون الآمال في طرح البنود الإصلاحية وفي التخلّص من مصادر الهدر والفساد والإصرار على «تشليح» المواطنين المنهكين.. يبرز الإستحقاق الأهم، وهو التعيينات القضائية والأمنية والإدارية المرتقبة، والتي ستؤثر على مستقبل أجهزة الدولة لسنوات طويلة مقبلة، بعد تجربةٍ مريرة تركتها «السلة» السابقة من التعيينات التي إستحوذ جبران باسيل على حصتها المسيحية ومدّ يده إلى التوظيفات من أعلى الهرم إلى أدناه حاصداً الحصة الكبرى، من وزارة العدل إلى التربية وليس إنتهاءً بالطاقة والمياه وغيرها..

 

وفي مراجعةٍ سريعة لإشكاليات التعيينات، نجد، على سبيل المثال، أن مواقع عكار التربوية والإدارية سقطت بشكلٍ شبه كامل بيد باسيل، ولم تنجح محاولات الإستلحاق والإستدراك في معالجة أي خللٍ وقع، لا في عكار ولا في طرابلس.

 

وفي عاصمة الشمال، جاءت التعيينات القضائية السابقة لتبسط نفوذ قوى 8 آذار وضمنها التيار العوني، على القرار القضائي بإستثناء قاضٍ واحد يتمتع بشخصية منفتحة على تيار المستقبل..

 

إكتشف الرئيس الحريري متأخراً أن حصيلة التعيينات القضائية السابقة كانت كارثية، ولعل أبرز نتائجها أداء مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس الذي وصل به الأمر إلى حدّ الإدعاء على مؤسسة قوى الأمن الداخلي في سابقةٍ مستهجنة أحرجت رئيس الحكومة وضربت مصداقية القضاء، ودفعت الرئيس الحريري للإعلان صراحة أنه لن يسكت عنها.

 

< إعادة التوازن في التعيينات:

 

لا يقتصر الأمر على قضاة المحكمة العسكرية، بل إن جبران باسيل أعدّ العدة ليكون مرشح الرئاسة الحاكم من خلال الإستيلاء على مفاصل الدولة من خلال التعيينات المنتظرة.

 

المواجهة الحقيقية التي يتوجب على الرئيس الحريري خوضـُها وتسخير كل الإمكانات والطاقات وحشد كل عناصر القوة لكسبها، هي معركة التعيينات، والهدف هو الحفاظ على التوازن الوطني والسياسي.فعلى مستوى الحصة السنية يجب الحفاظ على المواقع وإسترداد ما إستولى عليه ويعيقه باسيل وتياره، وخاصة في المناطق ذات العمق السني، مثل طرابلس وعكار..

 

فالمواقع الحيوية للسنة في القضاء والإتصالات والتربية وغيرها تعرّضت للإهتزاز منذ ما قبل التسوية وتعزّز الإنهيار بعدها، فتراجعت مناعة السنة داخل الدولة بشكلٍ لا يخفى على أحد.

 

ولا يعقل الإستمرار في السكوت على ما يقترفه باسيل من جرائم بحقّ مئات الناجحين (جلّهم من المسلمين) في مباريات مجلس الخدمة المدنية، من خلال منعهم من الإلتحاق بوظائفهم لعدم توفر ما يعتبره التوازن الطائفي، متجاهلاً عن عمد، أن التوزيع الطائفي يقتصر، دستورياً وقانونياً، على وظائف الفئة الأولى، لكن السكوت عليه سمح له بفرض المناصفة العددية في وظائف مثل حراس الأحراج وغيرها من وظائف الدرجات الثانية والثالثة والرابعة..

 

< «نهوض» التأهيل وحماية العدالة في التوظيف:

 

وفي هذا المقام، لا بدّ من تطوير أداء جمعية «نهوض» التي باشرت بتنظيم دورات تأهيل لوظائف الدولة، وهي خطوة هامة، لكنها تحتاج إلى تطوير وتوسيع لتشمل كل المناطق، بحيث يتاح للمرشحين السنة الحصول على الدعم العلمي والعملي المطلوب لتأمين نجاحهم في إمتحانات مجلس الخدمة المدنية، وتوفير الغطاء السياسي لحماية نجاحهم في هذه الإمتحانات من خلال ضمان التوزيع العادل للوظائف على المرشحين المتقدمين لإشغالها.

 

< التوازن الوطني:

 

وعلى المستوى السياسي، لا يمكن القبول بإستيلاء باسيل على كامل الحصة المسيحية بالإبتزاز والتسلّط والتهديد بالتعطيل، كما حصل في المرة السابقة، مما أدى إلى حرمان القوات اللبنانية من إيصال أي مرشحٍ لها في القضاء وغيره.. وكما قال الدكتور سمير جعجع إن الحصة المسيحية هي للمسيحيين وليست لجبران باسيل.

 

كما أن معايير الكفاءة والمسيرة المهنية يجب أن تأخذ نصيبها من الإعتبار، فلا يصحّ تسليم موظف أثبت عدم كفاءته مواقع حسّاسة، يمكن أن تتحوّل إلى مصدر ضررٍ وطني، كما حصل مع القاضي جرمانوس في المحكمة العسكرية، وكما يتسرب من الترشيحات إلى مناصب الدولة العليا.

 

< مصداقية المواجهة: حماية الحقوق:

 

أعلن الرئيس الحريري أنه لن يسكت على ما يفعله جبران باسيل، ولا شكّ أن الشارع السني ينتظر منه خطواتٍ عملية تنعكس على حياة الناس.

 

أثبتت الوقائع أنه من الخطأ أن يعزل الحريري جمهوره عن التفاعل مع خطواته التي يتخذها، لأنه تجاهل الناس يفصلهم عنه ويخلق مزاجاً من الإحتقان، وأن الإسقواء بالناس للحفاظ على الحقوق أمرٌ واجب، ومن ضرورات العمل السياسي في لبنان.

 

تنتظر طرابلس وعكار وعرسال وصيدا وشبعا… جلسات لمجلس الوزراء فيها، تحرّرها من قيودٍ تعيقها منذ الإستقلال حتى اليوم، وتأخذ القرارات اللازمة لتحريك قطاعاتها وإقتصادها والنهوض بها، ودون ذلك يبقى الموقف قاصراً ولا يلبي حاجات الناس، وسيعيد الغضب السني إنتاج نفسه من جديد.