IMLebanon

هكذا تغلّب أهل السنّة على صناعة التطرّف في لبنان

 

كان التطرّف في جزء منه صناعة سياسيّة وأمنيّة إقليميّة ودوليّة، نال لبنان منها حصة وازنة على أيدي منظومة الممانعة وكانت أولى تجلياتها أحداث الضنية أواخر العام 1999، التي استثمر فيها النظام الأمني السوري اللبناني وكانت من تداعياتها تعرّض البعض للاعتقال. تركت «أحداث الضنية» ندوباً كبيرة استمرّت لسنوات وأثّرت على العلاقة بين المناطق السنيّة في الشمال وبين الجيش والقوى الأمنية.

 

كان ذلك بداية لمسار يعتمد سياسة الاعتقال على الشبهة المسيّسة والتوقيف الطويل بلا محاكمات وتحويل السجون وأولها رومية إلى مصانع للتطرف، واستمرّ حتى بعد خروج الجيش السوري، واشتكى البعض من انحياز بعض الأجهزة القضائية والأمنية ضدّ بعض المجموعات السنيّة في طرابلس وعرسال وغيرها من المناطق.

 

اللافت للإنتباه أنّ هذا المسار تواصل رغم كلّ ما قيل عن مكتسبات حقّقها السنّة بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لا بل تحوّلت رئاسات الحكومات إلى ما يشبه شاهد الزور العاجز عن ردّ الظلم عن جمهورها، ليس على أساس الحميّةِ الطائفية، بل على أساس تطبيق قواعد العدالة وإعمال القانون ومنع التعسُّف في استعمال السلطة لاستهداف شريحة محدّدة.

 

تحوّلت ملفات الموقوفين السنّة إلى مادّة للمتاجرة الانتخابية عند كلّ استحقاق نيابي أو حتّى بلديّ، وكانت حصيلة أحداث عبرا وطرابلس وعرسال موجات جديدة من الاعتقالات، فبدا أهل السنّة وكأنهم بلا غطاء لا شكليّ ولا عملي، فأدركوا أنّ عليهم أن يواجهوا مصيرهم بأيديهم، وكانت لحظة الحقيقة هذه ضرورية لإيقاظ الوعي السياسي والديني والاجتماعي على ما كان يحصل من استغلال، تقاسمه شركاء السلطة ممن يمثلون السنّة والشيعة في تحالف موضوعي أصبح لاحقاً مكشوفاً.

 

كيف انتهت صناعة ظاهرة التطرّف؟

 

لا شكّ أنّ هناك عوامل كثيرة ساهمت في إنهاء هذه الظاهرة وفي فشل محاولاتٍ جديدة لإحيائها عن طريق خزعبلات بعض الأجهزة التي كشف القضاء زيفها.

 

العامل الأهمّ في خمود ظاهرة التطرّف في لبنان هو انتهاء مفاعيلها على المستوى الدولي والإقليمي وفقدان وظيفتها بعدما استنفدتها إيران والنظام السوري والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، في عملياتٍ معقّدة طالت شظاياها لبنان وانتهت بقيام «حزب الله» بإخلاء عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي بالباصات المكيّفة. العنصر المحوريّ في استعادة أهل السنّة لعافيتهم في المستوى الأمني ووقف الاستنزاف هو دخول دار الفتوى وعلى رأسها مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، ثمّ مفتو المناطق بشكل تدريجي على كلّ القضايا والشؤون التي تعاني منها هذه الجماعة من اللبنانيين. ورغم أنّ البدايات كانت شاقّة وحساسة إلاّ أنّها أسّست لمسار استعادة التوازن وخاصة بعدما تحرّرت من قيودٍ سبق أن فرضها عليها السلوك السياسي لـ»تيار المستقبل»، الذي رضي بتفسير «حزب الله» للإرهاب وقبل باعتماده معياراً في المحكمة العسكرية ضدّ شباب السنّة ربطاً بالملف السوري.

 

دار الفتوى ومعادلة الإعتدال

 

تمكّن رجال دار الفتوى من إرساء معادلات جديدة ترتبط بالإنتماء الوطني والحرص على السلم الأهلي من دون التخلّي عن الحقوق وحتى عن المواقف الرافضة لظلم أهل السنّة في لبنان والمنطقة.

 

أعادت دار الفتوى التوازن بشكل تدريجي، وبرز في صفوفها علماء تصدّوا للظلم بحقّ شبابها وعالجوا مظاهر التطرّف وعملوا على محاربتها، وعلى رأسهم أمين الفتوى في بيروت الشيخ أمين الكردي الذي تحوّلت مواقفه إلى بوصلة لتحديد الموقف، وهو الذي رفع السقف وتوجّه لكلّ المعنيين بضرورة إنهاء خرق القانون والتمييز في الأمن والقضاء.

 

وفي طرابلس شكّل شيخ قرائها الشيخ بلال بارودي ظاهرة متقدمة في تقديم رؤية متوازنة للعلاقة بين المجتمع المسلم والدولة، والتمسّك بالشرعية وبالجيش والمؤسسات الأمنية بالتوازي مع رفض هيمنة «حزب الله» وسلاحه غير الشرعي على البلد، والعمل الدؤوب لاستعياب الشباب ومنع انجرارهم وراء مغريات وتضليل التطرّف والمتطرِّفين.

 

ساهمت إنتخابات الإفتاء الأخيرة في ضخّ دم جديد في مفاصل دار الفتوى، وخاصة في طرابلس والشمال وعكار، وهذا ما أدّى إلى تعزيز منطق الاعتدال، وتلاقى مع العنصر الأبرز الآخر الذي ساهم في إطفاء ظاهرة التطرف، وهو السياسة التي اعتمدها قائد الجيش العماد جوزاف عون في إنهاء سياسات خرق القانون وإجراء تغييرات واسعة في ضباط المخابرات، وخاصة في الشمال، مع فتح حوارات معمّقة مع مفتيَي طرابلس وعكار الشيخين محمد إمام وزيد بكار زكريا، ومع القيادات الإسلامية العلمائية مثل هيئة علماء المسلمين والمدنية، وهذا ما خلق أجواء من الاستقرار والأمان والثقة المتبادلة بين هذه الأطراف وقيادة الجيش.

 

من خلال الإنفتاح والتعاون بين قيادة الجيش ودار الفتوى توقّف الاستنزاف داخل البيئة السنيّة، وبدأنا نشهد الفشل تلو الآخر في استقطاب الشباب السنّي نحو هاوية التطرّف، وكذلك بدأت تسقط محاولات بعض الأجهزة تركيب الملفات، كما حصل مع مجموعة المنكوبين التي أوقفها الأمن العام بتهمة التخطيط لقصف جبل محسن بالطائرات المسيّرة، وبرّأها القضاء بعد أشهر من الاحتجاز التعسفي.

 

النضال السّياسيّ بدل العنف

 

التحوّل المهمّ الآخر هو تعزيز إيمان أهل السنّة باعتماد النضال السياسي كوسيلة للمواجهة رغم كلّ ضغوط الدعوات للاستسلام واستنفار التطرّف مقابلها، وهذا ما أدّى إلى بروز نواب سنّة سياديين شكّلوا رأس حربة في تحديد أطر المواجهة وتأكيد أنّ السنّة سياديون وليسوا متطرفين، وهم يأخذون دورهم في كتلة «تجدّد» أو كمستقلين مثل النائبين بلال الحشيمي وإيهاب مطر.

 

لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ تجربة العشائر في مواجهة «حزب الله» نقلت إطار المواجهة من التهالك والاستسلام الذي يسمح للمزايدين ببثّ التطرّف، إلى الصمود الميداني والسياسي دون السماح لأحد برمي تهمة التطرّف مع تنسيق رفيع المستوى مع الجيش ودار الفتوى.

 

الخلاصات الهامّة لهذا الملفّ هو تسجيل التحوّلات التي شهدتها الساحة السنية بعد كلّ هذه التجارب، وأهمّها أنّ الفقر لا يكفي وحده لصناعة التطرّف، وأنّه بوجود الوعي عند عموم الشباب السنّي بأنّ استخدام العنف هو الوسيلة الأسرع للسقوط في فخّ الخصوم، لم يعد سهلاً استدراج أعداد كبيرة من الشباب نحو هذه الأفخاخ، وأنّ رجال دار الفتوى تمكّنوا من تأمين التوازن في الحالة السنيّة التي باتت محصّنة من محترفي صناعة الإرهاب إلى حدٍّ كبير.