«فرّق تسد»، هي المعادلة التي اعتمدها النظام السوري في لبنان مع الأطراف السياسيين وفق شهادتهم، لأنّها انسحبت عليهم جميعاً وتذوّقوا لوعتها. فالذاكرة اللبنانية المتّقدة لا تنسى آداء»قوات الردع» أو مخابراتها في زمن الوصاية السورية أو ما يشبههما من فصائل حَكَمَت وتَحَكَّمَّت في اللعبة السياسية اللبنانية وفي الكيان اللبناني.
معادلة «فرّق تسد» لم يعتمدها النظام السوري على الأطراف المسيحية فقط بل انسحبت على كافة الأطراف السياسية في لبنان، في كل مرحلة كان يشعر فيها هذا النظام انّ تقارباً جمع أو قد يجمع بين طرفين أو أكثر من الأقطاب اللبنانيين المتباعدين، فكان يعمد إمّا إلى ترهيبهم أو «ترحيلهم».
فنظام الوصاية إعتمد شرذمة الأطراف الوطنية اولاً وانتقل بعدها الى الشرذمة بين الطائفة الواحدة، مجيزاً لنفسه إستخدام كافة الوسائل لتحقيق الهدف. إستمر النظام السوري في اتباع هذه المنهجية حتى ما بعد استبعاد اللواء غازي كنعان من لبنان، أو الأصح الى ما بعد «نحر كنعان»، الذي أجاد اللعب في الساحة اللبنانية. إلاّ أنّ وريثه اللواء رستم غزالي، الذي وافاه لاحقاً الى دنيا الآخرة، وبالرغم من فرض سطوته على أغلبية الاقطاب الاساسية المؤيّدة للنظام آنذاك، رسب في مدرسة كنعان وسقط بالضربة القاضية بعد استشهاد رفيق الحريري.
لم يستطع غزالي الإمعان في شرذمة اللبنانيين. فبعد استشهاد الحريري عاد الأمل بتموضع جديد للعلاقات السياسية الداخلية، المسيحية – الاسلامية السنّية تحديداً، والمسيحية – المسيحية. فتحرّر سمير جعجع من سجنه الصغير وعاد الجنرال ميشال عون من المنفى. وبذلك سجّل التاريخ للطائفة السنّية تمكّنها من جمع أقطاب انتمت الى اليسار العروبي المتطرّف مع اليمين اللبناني المتطرّف، وتحوّل نوعي للطائفة السنّية، تمثّل بتموضع لبناني صرف بل أكثر تطرّفاً في القضايا الايديولوجية، كذلك بدا المشهد مُذذاك في الساحة اللبنانية متّجهاً الى مزيد من التلاقي بين مختلف الأطراف المسيحية. كذلك انسحب الامر على الطائفة السنّية، التي وحّدها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فالتفّت حول ابنه سعد الحريري، فيما قدّم له الداخل والخارج جرعات دعم إضافية، وهو ما أعطى الحريري والطائفة السنّية زخماً وقوة مضاعفة. أمّا دار الافتاء فأبقت مباركتها للزعامة الحريرية السنّية حتى يومنا هذا… فهل تغيّرت المعادلات؟
ماذا عن الغد؟
صحيح أنّ اصواتاً سنّية كانت تعلو من هنا وهناك، معترضة على حصر الزعامة السياسية السنّية في لبنان بالحريرية، إلاّ أنّ تلك الاصوات لم تكن فعّالة لأنّها لم تكن مدعومة بمخطط «المعادلة الدائمة» فرِّق تسُد، التي اعتمدها النظام السوري مع الطائفة المسيحية في حقبة الوصاية، عندما نجح في تعميق الشرخ بين الأقطاب المسيحيين، لأنّه لم يتمكن من استخدام المعادلة ذاتها مع الطائفة السنّية بعد استشهاد الحريري، بل انّ الاستشهاد زعزع النظام فأخرجه من اللعبة ومن الحلبة اللبنانية الى الأبد…
واذا سلّمنا جدلًا بنظرية رئيس حزب «القوات» سمير جعجع، الذي راهن بأنّ النظام السوري لم يعد له سيطرة حتى في سوريا وليس فقط في لبنان! فلمصلحة من في الداخل اليوم شرذمة الطائفة السنّية؟
السنّة يتموضعون!
يشعر اليوم المواطن السنّي بأنّه يمرّ في حالة ضياع، لأنّه لا يدرك من هي المرجعية الفاعلة التي يمكنه اللجوء اليها في اوقات الشدّة: بيت الوسط، أم السراي الحكومي ام الأفضل له التوجّه الى دارالإفتاء؟
والأسئلة التي تُطرح، هل بدأ التشرذم في الطائفة السنّية بعد 15 عاماً على استشهاد الحريري؟ هل ما نشهده اليوم هو انقسام داخلي لأهل السنّة فقط أم تأثّير لعوامل خارجية؟ وهل تنقسم الطائفة السنّية في لبنان عامودياً، ولمصلحة من سيكون هذا الإنقسام؟
ولماذا التصعيد المفاجئ من قِبل الرئيس دياب والردّ من كتلة «المستقبل»، ومن خلفها الحريري، في وقت كانا سوياً يترقبان نتائج ملموسة من آداء حكومة الإنقاذ التي رئسها دياب واستقال منها سعد؟! فهل السبب فشل الاول في مهمته ام جرعة دعم رشفها الثاني في جولته الخارجية، بعد وعده اللبنانيين في 14 شباط بأنّه سيجوب العالم لمساعدة لبنان؟
فيما تكشف أوساط مطلعة، انّ جولة الحريري الأخيرة كانت لحلحلة امور شخصية وترتيب وضعه المالي ووضع شركاته، ولم يكن طابعها سياسياً، والدليل انّها لم تترافق مع اي تغطية اعلامية.
في المقابل، تساؤلات عدة تُطرح في الكواليس!
1 – كيف يمكن قراءة تصعيد دياب بعد صمت طويل، ولماذا التصويب المباشر على الحريري، مع إدراك دياب لحجم الدعم الذي ما زال يرعى الحريري ويثبّته الزعيم السنّي الاول شعبياً وخارجيّاً، والدليل كان بالصوت والصورة في ذكرى 14 شباط، عندما اجتمع الثلاثي، سفير السعودية والإمارات ومفتي الطائفة السنّية؟
2 – هل طُلب من دياب التصعيد أم كان موقفاً محض شخصياً؟ في وقت اعتبره البعض موقفاً متسرّعاً، ولاسيما انّه اتى قبل جولته العربية المُفترضة وقبل حصوله على مباركة كاملة من دار الإفتاء ومن المملكة على حد سواء، وهي حتى الساعة لم تتجاوب مع دياب، بل اكتفت بالتمنّي له بالتوفيق مترقبة آداؤه.
دياب فاجأنا!
تقول مصادر التيار الأزرق، إنّ مواقف دياب الأخيرة مرفوضة ومفاجئة. في وقت يستغرب هؤلاء أن يعزف دياب على وتر النغمة التي ردّدها العهد وما زال، بحق الحكومات السابقة والسياسات الخاطئة والحريرية السياسية، فيما المطلوب من رئيس حكومة الإنقاذ خطة وليس الغناء على إيقاع العهد نفسه هروبًا من الإعتراف بالفشل .
وتضيف تلك المصادر: «تفاجأنا ولم نكن نتوقع منه ذلك».
من جهة أخرى، يقول المخضرمون من أهل السنّة، «لا شك أنّ زمن القوة الحريرية كان افضل بوجود صقورها…ولا يمكن لأحد تجاهل قوة الحضور التي ميّزت هؤلاء في السنين الماضية، والتي كانت «حاضرة ناضرة» للدفاع عن الحريرية السياسية وعن تيار المستقبل عند الشدّة. ويضيف هؤلاء: «مَن مِن اللبنانيين لا يتذكر مواقف نهاد المشنوق النارية، ومشاكسة النائب أحمد فتفت في جلسات الهيئات العامة، وغضب اللواء أشرف ريفي وتهديداته المستمرة بعظائم الأمور، في كل مرة يتمّ فيها المساس بالرئيس رفيق الحريري وحتى بتيار المستقبل! فإذا استذكرنا مآثر هؤلاء الذين غابوا لأسباب متفاوتة ومختلفة، وقارناها بالمواجهة الحريرية اليوم، ندرك ما تفتقد اليه حقيقة الحريرية السياسية راهناً».
الحريري والكاريزما السياسية
لكن أنصار الرئيس الحريري يرفضون الإقرار بواقع الحال، وما زالوا يراهنون على «الكاريزما الحريرية»، التي ساهمت الى حد كبير بالحفاظ على شعبية «سعد». الّا انّ هذه الكاريزما لا تكفي وحدها اليوم بحسب العالمين بخفايا أزمة التيار الأزرق، ولاسيما بوجود المتربصين كما يبدو، ولأنّ الحريري اليوم لم يعد في موقع القوة المالية ولا السياسية، ولأنّ اقطاب المواجهة في تيار المستقبل وكتلته البرلمانية غابوا، بالرغم من تمكّن البعض بالمسائل القانونية والأكاديمية، انما لا يستطيع هذا البعض مجاراة أو مواجهة الحزب الالهي ولا اللواء المخضرم السيّد اذا حكى… في وقت يبدو من يتربّص بالحريرية السياسية «ينتظر على الكوع» للإستمرار في شرذمة صفوف السنّة.
في السياق، تقرّ أوساط مقرّبة من التيار الازرق بأنّ هناك اكثرية سنّية انبثقت بعد اغتيال الحريري، لكن الجو السنّي المشدود تاريخياً للنظام السوري ولمحور المقاومة بقي قائماً.
وللمرة الاولى نجح «حزب الله» في انتخابات 2018 نتيجة القانون النسبي من جهة ونتيجة ضعف تيار المستقبل من جهة اخرى، واستطاع إدخال كتلة نيابية الى البرلمان لنواب سنّة يدورون في فلكه على المستوى الاستراتيجي، وهو الخرق الاستراتيجي الأول الذي حققه «حزب الله» في صلب الطائفة السنّية بعد اغتيال الحريري. الّا انّ هؤلاء النواب، بحسب تلك الاوساط، لم يُحرزوا تقدماً على مستوى الممارسة.
هل تفرقة السنّة لمصلحة الحزب؟
قبل طرح هذا الاحتمال يجب التساؤل عمّا يريده الحزب من حسان دياب. وبحسب الأوساط نفسها، الجميع يعلم انّ ما يهمّ الحزب في المرحلة الراهنة هو بقاء سلاحه بأمان وبمنأى عن التجاذب السياسي، وان يوفَّر له اي قانون انتخابي الاكثرية النيابية وان يحظى بغطاء سنّي.
من جهة اخرى، يرى البعض انّه قد تكون للحزب مصلحة في ان يحقق اختراقاً اضافياً على صعيد البيئة السنّية، لأنّ الضرر الاكبر الذي حصل في الماضي بالنسبة اليه كان هذا التحوّل في الاستراتيجية السنّية بعد اغتيال الحريري، ولذلك هو يرغب بالتأكيد اليوم بعودة الحالة السنّية الى الحضن العربي القومي ومنظومته. لكن تستبعد تلك الاوساط في الوقت نفسه ان تكون للحزب يد في التصعيد السنّي – السنّي، لأنّه في العمق اراد بقوة ان يترأس الحريري حكومة الإنقاذ. وترجّح بأنّه صراع بين اهل السنّة ومرتبط بشكل اساسي بشخص الرئيس دياب، الذي ربما اراد تثبيت نفسه في بيئته السنّية، في وقت لا تستبعد الاوساط نفسها ان تكون للعهد أيضاً علاقة بهذا التصعيد، بسبب العداء الحاد الذي نشب أخيراً بينه وبين الحريري. ولانّ نغمة السياسات الخاطئة منذ 30 عاماً «يغنيها» العهد عادة وليس دياب. لكن يبدو بأنّها اصبحت اليوم متلازمة معهما بسبب تقرّبهما من بعض اي بين عون ودياب.
الحزب والحريري
وفي السياق، تلفت أوساط مطلعة الى انّ الحزب يدرك انّ الحريري هو الوحيد الذي يمكن له مساندته في ردّ الفتنة السنّية – الشيعية، وبأنه ما زال وحده يمثل الاكثرية السنّية، وهو الزعيم السنّي الوحيد القادر على توحيد كلمتها، بالرغم من كل المستجدات. كما يُدرك الحزب انّ الحريري هو الأقدر اليوم على فتح القنوات بين بيروت والرياض وواشنطن، ولذلك يستبعد هؤلاء تدخّل الحزب بهذه المسألة، بل ترجّح ان يكون موقف دياب الاخير تصعيداً منه لاعتبارات شخصية، وهذه الاعتبارات تتقاطع مع العهد بشكل اساسي. وعليه يمكن طرح التساؤلات التالية:
– لماذا يتموضع دياب، وهل يملك معطيات جديدة دفعته الى التصعيد؟
– لماذا سارعت كتلة المستقبل للردّ ولم يردّ عليه الحريري شخصياً؟
تطمئن اوساط مطّلعة، أنّ قوة الحريري ما زالت في صلب المعادلة السياسية ولو صعّد البعض. كما تكشف تلك الاوساط، أنّ الاتفاق الضمني بين الحزب والرئيس بري والحريري ما زال قائمًا، وهو اقتضى على أن لا يُمسّ بكافة ادوات الحريري في السلطة وفي الادارة وحتى في القضاء، مقابل أن يحيّد الحريري الحزب عن الهجوم في اطلالاته، الامر الذي تظهّر في خطاب 14 شباط، وهذا ايضًا ما اشارت اليه تسريبات التشكيلات القضائية، التي لم تنقل او تشكّل اي محامٍ او قاضٍ تابع للتيار الازرق بل ظلوا ثابتين في مراكزهم.
انا الزعيم !
يبقى السؤال الأهم، هل لمصلحة الحريري نجاح حسان دياب في مهمته، ليصبح هذا النوع من رؤساء الحكومات هو القاعدة، اي الرجل الأكاديمي وليس الزعيم؟
يجيب العالمون بالخفايا، «لا نعتقد بأنّ هذه القاعدة هي مطلب الطائفة السنّية كما هي بالطبع ليست رغبة الحريرية السياسية».