حالة اللغط والإرباك المحيطة بالإنتخابات النيابية لم تقتصر على الساحة السنّية فقط، بعد تعليق تيار المستقبل وزعيمه نشاطه السياسي والإنتخابي، بقدر ما تُعاني معظم الأحزاب السياسية الأخرى، بما فيها الثنائي الشيعي، من مثل هذا الإرتباك، خاصة بالنسبة لإختيار المرشحين على اللوائح الحزبية.
ولكن الساحة السنّية تستقطب الإهتمام في هذه الفترة بالذات، نظراً لحالة الفراغ التي أحدثها عزوف رؤساء الحكومات، بما يمثلون في القيادات التقليدية، عن الترشح للإنتخابات المقبلة، وعدم قيامهم بما تمليه عليهم مسؤولياتهم بإعداد الكوادر الشابة القادرة على حمل الأمانة الوطنية والسياسية، والكفوءة في تمثيل جماهير الطائفة الأكبر في لبنان.
وبإنتظار وضوح قراري كُلٍّ من الرئيسين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة من خوض غمار المعركة الإنتخابية وعدم ترك الساحة في حالة من الإرباك والضياع، تم حسم عدة نقاط كانت موضع لبس وغموض، وأحياناً سوء إستغلال من قبل المصطادين في المياه العكره.
أولى تلك النقاط، أن لا مقاطعة سنّية للإنتخابات، كما حاول بعض المغرضين الترويج إثر خطاب الرئيس سعد الحريري الذي أعلن فيه تعليق العمل السياسي لتياره ومناصريه، وعدم الترشح للإنتخابات النيابية. وفي اللقاء الذي تم على عجل بين مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان والرئيسين ميقاتي والسنيورة في الجامع العمري الكبير، غداة مغادرة الحريري البلد، تم الإعلان صراحة للإعلام أن لا مقاطعة للإنتخابات، بل حرص على الحفاظ على دور وموقع الطائفة السنّية في المعادلة الوطنية.
ثاني تلك النقاط، الإنتقال من نفي المقاطعة إلى الحث على المشاركة في العملية الإنتخابية في كل الدوائر، سواء بالترشيح أو الإقتراع. وتوالت الدعوات، وكان آخرها صادراً عن مفتي الجمهورية بالذات، للنزول إلى أقلام الإقتراع بكثافة للتصويت لمن يستحق أن يُمثل أهل الجماعة، وعدم ترك ساحة الإنتخابات نهباً للطامعين والطفيلييِّن والمُخترقين والإنتهازيين. خاصة وأن العديد من الأحزاب والأطراف السياسية إستعدت للحصول على حصص من الأصوات السنّية، سواء في المناطق حيث تواجد الصوت الوازن، أو في الدوائر التي يتواجد فيها السنّة كبيضة ميزان، ولكن لا يحظون بتمثيل نيابي في دوائرهم، مثل الدائرة الأولى في بيروت، ودائرة البترون ـ الكورة ـ زغرتا وغيرها.
ثالث تلك النقاط، أن لا فراغ فعلي في العمل السياسي للطائفة السنّية، التي إستعادت، نسبياً، تجربة التعددية في الزعامة السياسية، سواء في بيروت أو في طرابلس وصيدا، وبقية مناطق التواجد السنّي، وبعد سنوات من حصر الزعامة بشخصية الحريري. في بيروت يقوم الرئيس السنيورة بلملة الوضع لتشكيل لائحة قوية من العائلات البيروتية تشد العصب السنّي، وفي صيدا عادت ثنائية سعد ـ البزري إلى الأضواء، وفي طرابلس ينشط فيصل كرامي، وريث الزعامة الكرامية، مع الحلفاء في تشكيل لائحة منافسة لتلك التي سيدعمها الرئيس ميقاتي في حال بقي على موقفه من عدم الترشح، وكذلك الحال في عكار والبقاع، إلى جانب الحركة السياسية الناشطة التي أطلقها بهاء الحريري في مختلف المناطق اللبنانية، وبروز دور مُلفت للعشائر العربية المتواجدة في العديد من المناطق على الجغرافيا الوطنية.
مُخطئ كل من يتصور أن المكون السنّي يُعاني ضعفاً أو وهناً. صحيح أن مشروع الدولة الذي حمله هذا المكون دائماً، وبقي متمسكاً به رغم كل الصعوبات والعثرات، يمر في مرحلة من التعثر والإرتباك، نتيجة تراجع نفوذ الدولة أمام سطوة «الدويلة»، ولكن الخلل الحاصل في المعادلة الوطنية هو الذي يؤجج حالة التشنج السياسية، ويتسبب في حالة عدم الإستقرار السياسي الراهنة.
لعل الإشكالية الأساس التي تعترض المرجعيات الروحية والسياسية عشية الإنتخابات تتمثل بحالة التفلّت الفردي في إطلاق الترشيحات العشوائية، التي تُكرس التشرذم، وهدر الطاقات ومفعول الإقتراع، في وقت أحوج ما يحتاجه أهل الجماعة إلى التكاتف والإنضباط تحت سقف المصلحة العامة، للحفاظ على دور الطائفة السنّية المعهود في القضايا الوطنية، وفي سلطة القرار السياسي والوطني.
ولكن ما يشغل الجميع، من أحزاب وأطراف سياسية، السؤال الملحاح:
هل الإنتخابات حاصلة فعلاً أم أن التأجيل هو قرار اللحظة الأخيرة؟