IMLebanon

الحريري ومخاطر التجارة بالتطرّف

 

«اذا لمستُ أنّ سنّة لبنان يميلون نحو التطرف ساعتها أنا بتدخّل». بهذا الطرح فتح الرئيس سعد الحريري الباب لعودته إلى العمل السياسي مقابل الاستمرار في ربط النزاع مع «حزب الله» مرفِقاً طرحه بالدعوة إلى إنشاء «مجلس حكماء من خارج الدولة وترك إدارتها لأكفّاء».

 

بهذا يكون الحريري قد وضع عنوانين لتدخّله في الشأن العام. الأول أنّه يطرح نفسه الضامن لاعتدال السنّة اللبنانيين وكأنّهم من دونه سيتحوّلون إلى دواعش، والثاني الترويج لمجلس حكماء خارج المؤسسات الدستورية مع ما يحمله ذلك من خروج على منطق الدولة نفسها، فضلاً عن أنّ كلّ هذا يكشف الفراغ الذي يعانيه خطاب الحريري كونه يأتي خالياً من أيّ مضمون يتعلّق بشؤون البلد وقضاياه الملحّة، التي ليس منها وضع السنّة كمرشحين دائمين للإصابة بفيروس التطرّف.

 

ما قاله الحريري حول التطرّف السنّي المحتمل لا يمكن تجاوزه لأنّه حمل إشاراتٍ وأبعاداً سياسية ومعنوية توجب النقاش والتفنيد والتوضيح والردّ، وأولى الملاحظات، أنّ الرجل يؤكّد أنّه يلتقي في نظرته للواقع السنّي مع «حزب الله» الذي يبني دوره على ثنائية مقاومة العدو الإسرائيلي ومواجهة التطرّف السنّي، وهذه إشكالية تُذكِّرُ بموقف الحريري من تمريره تعريف الحزب للإرهاب واستخدامه في القضاء العسكري، وكذلك في المواقف الملتبسة من قضية الشيخ أحمد الأسير وما جرى في عرسال، وهنا تكمن الخطورة في أنّ وجود التطرّف ضرورة سياسية لهما معاً.

 

من أبرز عوامل مكافحة التطرّف الحفاظ على الحقوق وتحقيق الإنماء والإنفتاح على المكوّنات السنية واستيعابُها وعدم استعمال الإلغاء والإقصاء. كلّها عوامل استعمل الحريري نقيضها في مواجهة تحديات موجات التطرّف الغابرة، وإجراءُ جردةٍ مركّزة على المناطق التي مثّلها تيار المستقبل، توضح مدى الإنكشاف الإنمائي الخطر الذي تعرّضت له في زمنٍ كان يُفترَض أن يكون فرصتها للنهوض الكبير مع توفّر الإمكانات الكبيرة والقرار بوجود التيار الأزرق في السلطة.

 

ما فعله الحريري في مواجهة تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي كان ردّة فعل مستندة إلى طبيعة السنّة المعتدلة والمساندة للدولة والمتمسّكة بالجيش، وليس انطلاقاً من قرار سياسيّ استراتيجي، لأنّ مواجهة التطرّف كانت وما زالت تستدعي حواراً إسلامياً واسعاً تحت مظلّة دار الفتوى مع الجمعيات الإسلامية وإشراكها في برامج تطال الشرائح الشبابية السنية لإقامة مواجهة مستدامة لمخاطر التطرّف على غرار التجربة السعودية وهذا كلّه لم يحصل.

 

ما زال الحريري مسكوناً بالإعتقاد الذي يريد إقناع نفسه واللبنانيين به، أنّ على الجميع البقاء في الثلاجة حتى تسمح له ظروفه بالعودة. «قولوا للجميع أنّكم عدتم إلى الساحة ومن دونكم ما في شيء ماشي بالبلد»، وفي الواقع أنّه كان على رأس السلطة ولم يكن شيء يمشي في البلد، وهذا الكلام يناقض ما قاله الحريري أيضاً عن عدم تمسّكه بالسلطة، وهنا يقول منتقدوه إنّ وجوده في لبنان مرتبط بوجوده في الحكم وعندما يخرج منه يترك البلد، وهذا سلوك لا يتناسب مع ضرورات العمل السياسي.

 

تحمل الدعوة إلى مجلس حكماء إحتمالين

 

ــ الأول: أنّه عام يشمل كلّ الزعامات والطوائف وهو بذلك يتجاوز ويلغي ما ورد في إصلاحات اتفاق الطائف من إنشاء مجلس الشيوخ. المعضلة أنّ الحريري قال بإنشائه خارج الدولة، وهذا يطرح أسئلة كثيرة عن ماهية هذا المجلس المفترض خارج الدولة، وكيف يقفز فوق مجلس الشيوخ الذي يُفترض أنّه مخصّص للطوائف لكي تقيم توازناتها من دون إعاقة عمل مؤسسات الدولة.

 

ــ البعد الثاني في طرح مجلس الحكماء، هو محاولة الحريري محاكاة «مجلس حكماء المسلمين» الذي أطلقته دولة الإمارات العربية المتحدة من حيث التسمية ومن حيث الدور، كونه مطروحاً خارج الدولة.

 

ومجلس الحكماء الذي ترعاه أبو ظبي قام في مواجهة «الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الذي أسّسه العلّامة الراحل الشيخ يوسف القرضاوي ويرأسه اليوم الشيخ علي القرداغي وتعتبره السلطات الإماراتية الواجهة العلمائية العالمية للإخوان المسلمين، وهذا يُدخلنا إلى تصويب الحريري بشكل أو بآخر على الجماعة الإسلامية ووصفها بالتطرّف كونها من مكوِّنات الإخوان ولأنّها قامت ببعض العمليات العسكرية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب.

 

يمكن لأيّ جهة سياسية أن تنتقد الجماعة الإسلامية في مسارها الفكري أو السياسي، لكنّ اتهامها بالتطرّف فيه شططٌ بالغ، فتاريخها الطويل يمنحها براءة تلقائية من مثل هذه الاتهامات، مع التذكير بأنّ الحريري نفسه سبق أن تحالف مع الجماعة نفسها في أكثر من محطة انتخابية، ولم يحصل أيّ تغيير في وضعية الجماعة منذ ذلك الحين حتى اليوم، وأنّ الاعتدال في السنّة أصيل منذ وجودهم وقبل الشهيد رفيق الحريري ويستمرّ بعده ولا يتوقّف عند شخص بعينه، لأنّه الهوية الغالبة لأهل السنة في لبنان والعالم العربي.

 

البحث عن روائح التطرّف وتحريكها لا يكفي ليكون موجوداً، لا سيّما بعد كلّ التجارب التي خاضها الشباب السنّي مع موجات «داعش» وغيرها وقد أسقطها الإجماع السنّي في غياب الحريري وتمكّن من تجاوزها، خاصة مع رفع جزء كبير من المظالم مع السياسة التي اعتمدها قائد الجيش العماد جوزاف عون وفريقه في القيادة وفي المخابرات، عندما أنهَوا سياسة التوقيفات العشوائية وأوقفوا الاستخدام السياسي لظاهرة التطرّف ومنعوا صناعتها لغاياتٍ محلية وخارجية وانفتحوا على دار الفتوى والقيادات الإسلامية وهذا ما خلق استقراراً واضحاً وتراجعاً شبه كامل في حالة التطرّف.

 

يحاول سعد الحريري مغازلة الإدارة الأميركية والإمارات العربية، ويذهب بعضهم للقول إنّه يراهن على حصول خلافٍ سعوديّ إماراتي يفتح له باب العودة ولو من مداخل مختلفة بحيث لا يتحمّل مسؤولية العبء اليومي للعمل السياسي، ويتجنّب ما توجبه المسؤولية عليه في معالجة الأزمات التي تضرب السنّة خصوصاً واللبنانيين عموماً.

 

يُذكِّر المتابعون رئيس الحكومة الأسبق بأنّ الانسياق في هذا المسار، يؤكّد الخواء السياسي ويجعل من ينزلق فيه أسيراً للوقائع الأمنية وهذا أمرٌ مخيف. كما يُذكِّرون بأنّ الإمارات لم تُعِد سفيرها وفريقها الدبلوماسي إلى لبنان وأنّ السياسة العربية موحَّدةٌ خلف الموقف السعودي والتخويف من التطرّف يشبه السعي وراء السراب في عمق الصحراء.