Site icon IMLebanon

الفشل السنّي؛ السلبي والإيجابي

بهدوء | 

بين التجييش المذهبي الكثيف للعصبيّة السنيّة، والقوى الفعلية التي يحفزها هذا التجييش، مفارقة تاريخية؛ فطائفة الأغلبية العربية، عاجزة عن الفعل السياسي إلا عبر تنظيمات تكفيرية إرهابية، كجبهة النصرة وداعش والقُطبيين من الإخونج؛ لا أحزاب أو حركات متجذرة، اجتماعيا وتاريخيا، ذات رؤية عقلانية وبرامج واقعية، ولا زعامات وازنة قادرة على طرح بدائل تصالحية وسلمية للحروب الأهلية في بلادنا المنهكة.

من أين نبدأ؟ من لبنان «الديموقراطي»؟ نظرة واحدة على أدبيّات تيار المستقبل، وأدائه، لتدرك أنه عاجز، تكوينياً، عن ممارسة السياسة إلا كأداة سعودية، أما زعيمه؛ فحدّث ولا حرج! وماذا عن منابره وكتّابه ومثقفيه؟ نحن أمام جوقة معطّلة الإحساس بالمسؤولية الوطنية، حتى لا نقول التاريخية! التراجيدي في هذا المشهد، التداخل الحاصل بين المستقبليين والتكفيريين الإرهابيين؛ يعرف الأوائل أن الأخيرين سوف يأكلونهم إذا تمكنوا؛ ضمانة بقاء المستقبل، لبنانياً، هي بقاء حزب الله وانتصاره، أي الحزب نفسه الذي يسعى «المستقبل» لتقويض قوته.

نحن نعيش في السنة الخامسة من الحرب التدميرية في سوريا. ومنذ وقت طويل، خرجت المعارضات النخبوية من الميدان؛ في البدايات، بل حتى وقت قريب، استقوت تلك المعارضات بالمسلحين والإرهابيين، ثم لم يعد لها حضور ولا قيمة؛ كان بإمكانها أن تسهّل الحل وتحصل على مكاسب في عامي 2011 و2012، إنما أخذتها العزّة بالإثم؛ لم تستطع أن تقدّم خطابا مطابقا لاحتياجات المجتمع السوري في واقعه الملموس، وفشلت في أن تقترح على السوريين، زعيما وطنيا ذا وزن وعقلانية وجماهيرية. الآن، وقد انفضحت الصورة عن تمرّد ليس له من مضمون سوى المضمون الطائفي، لم يعد في الميدان سوى «داعش» و»جبهة النصرة». ومن الواضح أن العواصم المعادية لسوريا، فقدت الأمل بالمثقفين والديموقراطيين الخ، فبدأت تقدّم إرهابيي «النصرة» كمعارضة معتدلة، وتحوّل الإرهابي أبو محمد الجولاني، إلى نجم تلفزيوني على فضائية الجزيرة، والبند المعتدل الوحيد على برنامجه، هو طمأنة «الأقليات»!

وضعُ العراق يختلف قليلا، من حيث الكمّ لا من حيث النوع؛ هناك زعامات، ولكن ليس هنالك زعيم قادر على اجتراح اجماع سني على حل وطني، بل ثمة العديد من الزعماء الذين لا يفهمون أن مصلحة السنّة البديهية تكمن في الوطنية العراقية والاستقلال العراقي، بخلاف ذلك يتحوّل السنّة إلى أقلية مهمّشة في «ديموقراطية» كميّة، تُسقط الأهمية الدولتية للنخب التكنوقراطية؛ هذه، على كل حال، هجرت أو تم تهجيرها من البلاد، بينما بقيت جماهير ضائعة ميّالة إلى التمرّد على سلطات محتكرة من قبل قوى شيعية، فشلت، حتى الآن، في أن تكون دولة وطنية لكل العراقيين.

وفي مصر .. أم الدنيا؛ ألا نرى أن الإخونج والسلفيين لم يعودوا ينفصلون عن « القاعدة» والتنظيمات الإرهابية الشقيقة؟ منذ أن كانوا في الحكم، وبعدما خسروه، لم يتمكن الإخونج من تقديم أنفسهم كقوة مهيمنة قادرة على إدارة الدولة المصرية، والتفاعل الوطني مع أزمات الاقتصاد والمجتمع؛ ظهروا كعصابة بلا رؤية تنموية ولا مشروع مصري ــــ عربي، سوى الكلام على «المشروع السني» والتحريض على الجهاد في سوريا، بينما تبنوا سياسات السادات في العلاقة مع إسرائيل، وسياسات مبارك في العلاقة مع رجال الأعمال؛ أما الرئيس ــــ الزعيم الذي اقترحوه على مصر والعرب، فرجل بدائي لا يستحم وينتصب لمرأى ضيفة رسمية ويأكل الكوارع في القصر الجمهوري!

الحركة الوطنية المصرية، قدمت بديلا معقولا، يتمثل في التيار الشعبي وزعيمه حمدين صباحي؛ إلا أنهما سرعان ما تبخّرا، بعدما تولى الجيش السلطة. ولم تمض سوى شهور، حتى تبين أن الزعيم الجديد المؤلّه، الرئيس عبدالفتاح السيسي، ليس أكثر من مدير عام للدولة المصرية، ليس، عنده، بديل تنموي عن المساعدات الخليجية، وهذا يكفي لكي تظل السياسة الخارجية المصرية في قفص؛ صحيح أنها تناور، ولكنها لا تزال عاجزة عن الاستقلالية. وعلى وجه التحديد، عاجزة عن تقديم زعامة عربية سنية تحيّد ملوك السعودية وشيوخ الخليج.

وفي فلسطين، موطن القضية العربية الكبرى، ماذا نجد سوى متعاونين مع الاحتلال في الضفة الغربية، وحمساويين متداخلين مع جبهة النصرة وارهابيي سيناء، في غزة؟ وفي الأردن، حيث كان الحراك الشعبي يبشّر بولادة زعامات ذات وزن من قلب البيروقراطية الوطنية، انتهى المشهد الأردني إلى عودة الملك عبدالله الثاني إلى احتكار القرار، واستعادة سياسي أعدمه الحراك الشعبي إلى الواجهة، بفضل علاقاته مع تل أبيب والرياض.

هذه اللوحة المفزعة ــــ التي يتحوّل فيها الملك سلمان وأبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني ــــ إلى قادة الأغلبية العربية من السنّة، لها وجهان، أحدهما سلبي يتمثل في تعقيد التوصل إلى حلول سياسية للحروب الأهلية العربية، ولكن لها، أيضا، الوجه الثاني الإيجابي؛ لا يستطيع السنّة أن يكونوا طائفة، حتى حين يريدون، ويتوهّمون؛ فلا حضور لهم، ولا مكان، ولا دور، إلا في سياق قومي تحرري، هو، وحده، القادر على إخراج الشعوب العربية من أزمتها الوجودية التي تنزف دما ودموعا وجوعا.