الشائع اليوم أنّ الماروني، الدكتور سمير جعجع، صار الإبن المدلل للحاضنة السعودية في لبنان. ربما تشكِّل هذه المعادلة ردّاً على كَون السنّي، الرئيس سعد الحريري، هو الإبن المدلَّل للحاضنة الفرنسية. إذاً، المعادلة معكوسةٌ بين المسيحيين والسنّة. لكن المثير هو أنّ الفرنسيين والسعوديين تساووا في التعب والضجر من لبنان. ولذلك، يبدو المسيحيون والسُنّة اليوم في وضعية الأيتام تقريباً. ووحدهم الشيعة ينعمون بالحضانة الإيرانية المستدامة.
لم تنفع الصيغة الوجدانية التي تعمَّد الرئيس نجيب ميقاتي ابتكارها، قبل شهر، في «ترقيق» قلوب السعوديين تجاه حكومته. قال: «السعودية قِبلتي السياسية وقِبلتي كمسلم. وأنا أصلي صلواتي الخمسة في اليوم، وأتّجه نحو قِبلتي في السعودية»، لكن «العين بصيرة واليد قصيرة».
إستنتج ميقاتي سريعاً أنّ السعوديين لم يعودوا مستعدين للإصغاء إلى هذا النوع من الكلام، خصوصاً من قادة السنّة الذين تلقَّوا الدعم السعودي، كلُّهم وبلا استثناء، في مراحل مختلفة.
فلبنان لم يعد قِبلة السعوديين على شاطئ المتوسط، كما كان طوال عقود، بل صار يعني لهم قاعدةً لنفوذ إيران ومنصةً لانطلاق نشاط «حزب الله» في اتجاههم، وفي اتجاه سوريا والعراق، واليمن خصوصاً.
ولذلك، لم يستقبل السعوديون ميقاتي المتحمِّس لزيارة المملكة ومخاطبة مسؤوليها وجهاً لوجه، منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى السرايا. ولا ينسى أحد أنّ ميقاتي قام أساساً بتشكيل الحكومة متجاوزاً رغبة السعودية ومتجاهلاً رؤيتها.
ينتاب السعوديين شعور بالاستياء لأنّ قادة السنَّة يتجاهلون شكاواهم الكثيرة والجدّية من «حزب الله»، ويؤلفون الحكومة تلو الحكومة بما يرضي «الحزب» ويمنح الرئيس ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل أوسع هامش للتحرّك. ثم يتوجّهون إلى المملكة طالبين تغطيتها في السياسة والمساعدات لهم وللحكومة التي هي حكومة «الحزب».
يعتبر السعوديون أنّ ميقاتي يسلك معهم مسار الأزمة إيّاها التي سلكها الرئيس سعد الحريري، وكذلك الرئيس حسّان دياب. وعمق المشكلة في تقديرهم هو أنّ القوى السنّية المحسوبة عليهم لا تريد أن تتحمّل أعباء الاعتراض على نهج «حزب الله»، ولو كان يتعرّض للسعودية في العمق، كما في مسألة «الكبتاغون» مثلاً، وللخاصرة السعودية كما في حرب اليمن.
عندما جاء ميقاتي إلى السرايا، كان يعتقد أنّه يملك الحظَّ في تليين الموقف السعودي، لأسباب عدة. فهو ليس محروقاً في الرياض كما الحريري. ويتمتع بحنكة ومراس سياسي ربما يفتقدهما الحريري. كما أنّ «وسطيَّته» يمكن أن تساعده. وهو، ولو كان معروفاً بعلاقاته الطيّبة مع دمشق في مراحل معينة، فالأزمة السعودية اليوم ليست مع الرئيس بشار الأسد بل مع طهران.
تصرّف ميقاتي كما الحريري في أزمة استقالته الشهيرة في العام 2017: استعان بصديق ليتوسّط بينه وبين السعوديين. والصديق هو نفسه اليوم كما قبل 4 سنوات: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ومن خلاله حاول إقناع السعوديين- كما الأميركيين- بأنّ حكومته ستنفِّذ ما يريدون، ولكن بطريقة غير مباشرة. ولذلك، «اعطوني الفرصة» لإثبت لكم ذلك.
وتقوم فكرة ميقاتي على الآتي: أوقفوا الحصار المضروب علينا. لا فائدة منه. لا لكم ولا لنا. وحكومتنا أساساً لن تتخذ قرارات سياسية مهمّة يمكن أن تزيد انزلاق لبنان في محور إيران. وكل ما في الأمر أنّها ستحاول فرملة الانهيار المالي ليصمد البلد قليلاً، ثم تجري الانتخابات النيابية. وقد قرَّبت موعدها إلى 27 آذار. وفيها ستنشأ سلطة تشريعية جديدة يمكن الرهان عليها لإحداث التغيير في السلطات كلها وتحقيق التوازن الذي يطلبه الغربيون والعرب.
هذه الفكرة لم يقفل الأميركيون الباب في وجهها. فمنحوا ميقاتي فرصة 100 يوم لإثبات التزامه بها، على رغم اقتناعهم العميق بأنّ الرجل سيكون حسّان دياب آخر. وبذل الفرنسيون أقصى جهودهم، من خلال وزير خارجيتهم جان إيف لودريان، لدفع ميقاتي ووزرائه إلى البدء بالتطبيق عملياً، ولكن عبثاً.
لكن السعوديين لم يضيِّعوا الوقت. قالوها بالمباشر: «لن تنطلي علينا الوعود مجدداً، ولن نستعجل الإفراج عن المساعدات. فقد جرّبناكم كثيراً. ولكن، فلتبدأوا بإثبات الصدقية على أرض الواقع. وكل المسائل تصبح قابلة للبحث».
مشكلة ميقاتي أنّه في العمق مقتنع بأنّ المطالب الأميركية والفرنسية والسعودية في محلِّها، إذا كان يريد الإنقاذ جدّياً. ولكن، على الأرض، بدا سلوك الحكومة راجحاً لمصلحة «حزب الله»، كما الحكومات السابقة، في السياسة والأمن والقضاء، وفي مناخات التحضير للانتخابات، وفي التوجُّهات الاقتصادية، والأهم في تموضع لبنان الأقرب إلى محور طهران لا المحور العربي. وحادثة قرداحي أثبتت ذلك.
هناك مَن يقول: لقد احترق ميقاتي سعودياً، كما احترق قبله الحريري ودياب. ومن سوء حظ ميقاتي أنّه بسلوك حكومته «أعْماها» مع السعودية بدلاً من أن «يُكحِّلها». فالعلاقات مع المملكة صارت اليوم أسوأ مما كانت في زمن دياب. وثمة تصعيد سعودي إضافي متوقَّع مع لبنان، ولكن خصوصاً مع الطائفة السنّية.
العارفون يقولون: توقَّعوا ضغطاً سعودياً على السُنَّة لدفعهم إلى تحديد خياراتهم بوضوح: معنا أو ضدّنا؟ ويتحدث البعض عن مساعٍ ناشطة لجمع المعارضين لـ»حزب الله» من مختلف الطوائف، بما يشبه 14 آذار جديدة. لكن نجاح هذه المهمّة، في هذه الظروف، ليس مضموناً.
وعلى الأرجح، سيزداد الإلحاح السعودي على أركان الطائفة السنّية كي يخرجوا من المنطقة الرمادية، ولاسيما على نادي رؤساء الحكومات، ودار الفتوى، وقد يؤدي ذلك غاياته في أماكن معينة وبنسب مختلفة، خصوصاً لدى المرجعية الدينية.
لكن تيار «المستقبل»، الذي ينعقد عليه الرهان الأول باعتباره الأوسع تمثيلاً للسنّة، فسيزيده الإلحاح إرباكاً. فالحريري يقول إنّه «جرَّب المجرَّب»، أي التصعيد في وجه «الحزب» مراراً، ولم يصل إلى نتيجة. ولذلك، يرشح من أوساطه كلام متناقض حول خطواته المقبلة: هل سيهادن أو سيهاجم أو سينكفئ سياسياً؟
وهل يناور الحريري بتسريب أنّه سيقاطع الانتخابات النيابية أو هو يتقصّد ذلك فعلاً؟ وهل هذه رسالة منه إلى السعوديين أنفسهم؟ هل يقول لهم: إذا خسرتُ الانتخابات فستكونون أيضاً خاسرين. ففي النهاية، نحن نمثِّل الخط الأقرب إلى خيارات المملكة، وإذا أخلينا الساحة فسيملأ الفراغ حلفاء إيران بشكل مباشر؟
اليوم، الجميع يواجه التحدّي: السعوديون وجدوا فرصةً للانتقال من وضعية الدفاع والانكفاء في لبنان، إلى وضعية الهجوم والانخراط. لكن الحلفاء، وقادة السنّة خصوصاً، مصابون بإرباكٍ غير مسبوق. وهم يقولون: هناك أثمان باهظة ستُدفَع في كل الأحوال.