تستمرّ إسرائيل بضرب قطاع غزة، ولا تميّز بين مسلّح ومدني. ويعاني القطاع حصاراً سيؤدّي إلى كارثة إنسانية، إذا طال أمده. ولا تكفي شعارات التضامن للتخفيف من مآسي الشعب الفلسطيني. ويبقى الوضع اللبناني رهينة ما سيحدث في الجنوب، ولا يبدو أنّ هناك قراراً في فتح الجبهة حالياً.
لو وقعت حرب غزة منذ 30 عاماً لكانت التظاهرات عمّت المدن السنيّة في لبنان، وتبرّع عدد لا يستهان به من الشباب السنيّ بالذهاب إلى الحدود للقتال حتى لو عرفوا أنّ مصيرهم هو الموت، لكن تطورات السنوات الأخيرة أخذت القضية الفلسطينية إلى غير مكانها، وشكّل دخول إيران على الخطّ أحد أسباب التراجع في التأييد السني في المنطقة، وليس في لبنان فقط.
كما هو معلوم، إنّ أحد أسباب إندلاع الحرب الأهلية هو الإجتياح الفلسطيني المسلّح للبنان وفتح جبهة الجنوب وانخراط سنّة لبنان في القتال مع الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركة «فتح» بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات، حتى وصل الأمر إلى حدّ اعتبار الفلسطينيين «جيش السنّة في لبنان».
تبدلات كثيرة حصلت في لبنان والمنطقة، ولم تعد حركة «فتح» تمسك وحدها بالورقة الفلسطينية، فهي حافظت على هويتها العربية القريبة من العلمانية، بينما نمت في آخر 20 سنة حركة «حماس» وبعض الفصائل الإسلامية التي تدور في فلكها مثل حركة «الجهاد الإسلامي» وأخذت الدعم من إيران، وانتمت إلى محور «الممانعة»، وسيطرت بالقوة على قطاع غزة زارعةً الشقاق في الصفّ الفلسطيني.
وانعكس هذا الأمر على سنّة لبنان والمنطقة، وباتت الصورة كالآتي: «فتح» تنتمي إلى محور الإعتدال العربي المدعوم من مصر والسعودية، و»حماس» في صفّ «الممانعة» المدعوم من إيران.
ولم تنجح محاولات قطر بعد إندلاع الحرب السورية في ضمّ «حماس» إلى الصفّ العربي، فبعدما وعدتها بذلك، عادت بقوّة إلى محور «الممانعة» على رغم أنّ الشعور السنّي كان ضدّ نظام الرئيس بشار الأسد وخطّ «الممانعة». ولا يختلف الوضع في لبنان كثيراً عن إنقسامات المنطقة، فالسواد الأعظم من سنّة لبنان مع محور الإعتدال العربي، لكن على رغم الخصومة مع الممانعة، فقد وحّدت قضية غزّة الإنسانية، إضافةً إلى العداء التاريخي لإسرائيل، غالبية سنّة لبنان على موقف واحد، وهو أنّه لا حياد حيال دعم أهل غزة وفلسطين، في مقابل عدم توريط لبنان في أي حرب غير محسوبة النتائج. وعلى رغم أنّ الشيعة يشكلون أكثرية في الجنوب، إلا أنّ منطقة شبعا والعرقوب تقطنها أكثرية سنية، وهي التي تتعرّض اليوم لهجمات إسرائيلية، رداً على أعمال «حزب الله» العسكرية هناك.
جمع مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان النواب السنّة السبت لإتخاذ موقف موحّد من أحداث غزة، وفيما كان يروّج بعض الممانعين أنّ المفتي ربما يدعو الى المواجهة، حتى في لبنان، كان بيان اللقاء عالي السقف والنبرة تجاه أحداث غزة، في مقابل عدم التورّط في مواقف ودعوات تؤجّج نار الحرب وتشعل الساحة الجنوبية. وتقصّد المفتي الإبتعاد عن مسألة لبنان وركّز على قضية غزة لكي يكون البيان موحداً، لأنّ قسماً من النواب السنّة ينتمي إلى محور 8 آذار على رغم موقف الغالبية النيابية السنية وموقف دار الفتوى.
بعد عام 2005 رفع السنّة شعار «لبنان أولاً»، ويؤيدون مقولة «لا يحرّر فلسطين إلا أبناء فلسطين»، وإذا كان المفتي يقود الساحة السنية في الوقت الحالي بعد غياب مرجعية الرئيس سعد الحريري، إلا أنّ الحكمة في المواقف والأفعال تُلخّص سياسته في المرحلة الحالية والمقبلة.
وصار موقف الغالبية السنية، خصوصاً بعد اجتماع دار الفتوى يتلخّص بالآتي:
أولاً: رفض كل ما تقوم به إسرائيل من أعمال وجرائم في حق الشعب الفلسطيني، والتعبير عن أقصى درجات التضامن مع غزة.
ثانياً: رفض كل محاولات جرّ لبنان إلى حرب لا مصلحة له فيها ستؤدّي إلى دمار لا أحد يتحمّله.
ثالثاً: دعوة الدولة إلى تحمّل مسؤوليتها وفرض هيبتها ووجودها في الجنوب، وتسلم الجيش زمام الأمور.
رابعاً: رفض أي جهة، حتى «حزب الله» التفرّد بالقرار الإستراتيجي وقرار السلم والحرب وجرّ لبنان إلى الحروب والويلات.
خامساً: التمسّك بالقرارات الدولية، ولا سيما القرار 1701.
سادساً: رفض «حماس لاند» أو «جهاد لاند» جديد على أرض الجنوب، وعدم إعطاء إسرائيل ذريعة لتنفيذ مخططاتها.
إنتهى اجتماع – الواجب في دار الفتوى، وانصرف عدد من النواب السنّة إلى مناطقهم لمتابعة شؤون الناس. فالجميع يدرك أنّ وقوع أي حرب بين «حزب الله» وإسرائيل سيأتي بنتائج مدمّرة على لبنان، لذلك يجب الإستعداد لأي حرب حتى لو لم تقع، في حين ستبقي دار الفتوى إجتماعاتها مفتوحة لمتابعة الوضع اللبناني والفلسطيني على حدّ سواء.