IMLebanon

السُّنّية السياسيّة… أول العهود وآخرها

    

 

السنّية السياسية شيء والحريرية السياسية شيء آخر. ليستا من أب واحد وبطن واحد. مختلفتان، تنتميان إلى مرحلتين متناقضتين وأجيال متباعدة وثقافة مختلفة. مرتان ظُلمت السنّية السياسية: الأولى عندما نُسِب رجالها إلى المارونية السياسية كجزء لا يتجزأ منها وأحياناً ملحقاً بها، والثانية عندما نُظر إلى الحريرية السياسية على أنها مكمّلة لها. لا هذه ولا تلك

 

بعد الانتخابات النيابية في أيار الفائت، أعطت الجلسة الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية دليلاً إضافياً على الأثر السلبي لخروج – أو إخراج – الرئيس سعد الحريري من المعادلة الوطنية. غدا السنّة الطائفة الوحيدة المهمّشة في جلسة 29 أيلول. توزّع نوابها على مصوِّتين للأوراق البيض منسجمين في ائتلافهم والثنائي الشيعي، ومصوِّتين لها لأن لا مرشح لهم، ومصوِّتين للنائب ميشال معوض، ومصوِّتين لمسمّيات مختلفة لا رابط بينها ولا مغزى جدياً مفيداً لها في انتخابات الرئاسة سوى التهكم والسخرية من اللعبة الدائرة. أضف غائبين عن الجلسة ومتغيّبين. كأن ليس فيها نواب سنّة، يُنظر إلى اقتراعهم – وخيارهم في الاستحقاق – على أنه حاسم في مساره إيجاباً أو سلباً.

 

ما لم يُقل في الاقتراع السنّي، قيل في الاقتراع الدرزي عندما صوّت نواب وليد جنبلاط لمعوض كي يُحمَّل بُعداً سياسياً مؤثراً في التوازنات الداخلية كما في التحالفات المفترض أن أفرقاءها جميعاً معارضون، وعندما صوّت الثنائي الشيعي بالأوراق البيض كي يقول إنه أخفى وراءها مرشحه الفعلي إلى أن يحين أوان الإفصاح عنه، وعندما انقسم التصويت المسيحي لدى نواب جبران باسيل وسمير جعجع على أنهم يخوضون في الجلسة الأولى معركة قياس حجم زعامة الطائفة ومواصفات المؤهلين لها والقدرة على الاستقطاب وتذليل عراقيل ترشّح أحدهما أو في أحسن الأحوال منع وصول عدوّهما المشترك. وحدهم النواب السنّة، في الدلالة السياسية للجلسة الأولى، كان اقتراعهم بلا وظيفة محددة، ولم يُفهَم إلامَ رمى تشتته؟ ليسوا مع فريق أو ضد آخر دونما أن يعتادوا أن يكونوا كذلك مرة في تاريخهم، ولا مع أنفسهم بأن ينبثق قرارهم من مرجعيتهم المحسوبة الآن ملغاة. الأدهى في الاستحقاق الحالي أنهم لم يُشعِروا شريكَي المثالثة أنهم حاجة لهما فيه.

 

بعض الأسباب يُسهِّل تفسير الهامشية تلك: أن الطائفة لا تملك في الوقت الحاضر على الأقل أن يكون لها دور، وأن لا تكون حاضرة في الصراع والانقسام الناشبين، وأن تبدو فاقدة الهوية السياسية والمرجعية على نحو مكمّل لما بدأ قبل أشهر من الانتخابات النيابية الأخيرة وفي خلالها وبعدها. يوم اختار سعد الحريري تعليق العمل السياسي والاعتزال الموقّت في كانون الثاني، ظُنّ أن تجريده من الموقع الذي ورثه من والده سيفسح في المجال أمام العودة بالزمن أكثر من أربعة عقود إلى الوراء. إلى ماضٍ ساد الاعتقاد أنه لن يعود أبداً ما إن قوّضت الحريرية السياسية الأب الأول للزعامة السنّية في لبنان، من عقد الأربعينيات إلى مطلع الثمانينيات، الموزّعة على بيروت وطرابلس وصيدا وعكار والبقاع الغربي. بيد أن إرغام الحريري الابن على التنحي أرسل الإشارة السلبية المعاكسة. إخلاؤه كرسيه لئلا يملأه أحد. ليست لحظة دعوته إلى التخلي سوى دعوة جماعية لأسلافه في السراي، نادي رؤساء الحكومة، إلى أن يعتزلوا هم كذلك، ويحجموا عن الترشح للانتخابات النيابية وعن الاضطلاع بأي دور في الفصول التالية، ويُدعَوا إلى الانسحاب من الحياة السياسية برمتها. بَانَ من الطبيعي عندئذ، بالوصول إلى الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية، أن لا تكون الطائفة السنّية حاضرة فيها. ذلك ما لم يكن مرة في تاريخها.

أما ما أضحى حقيقة، وكان من الصعب توقّعه أو استنتاجه في ظل رفيق الحريري ثم الحريري الابن، فهو حق التفكير في العودة إلى ما كانت عليه السنّية السياسية في عقود ما قبل الحرب، بتفكيك المرجعية الواحدة المحدثة منذ عام 1992 وفصل حلقاتها بعضها عن بعض: النأي برئاسة الحكومة عن زعامة الطائفة، واستعادة الزعامات المحلية مواقعها وتنافسها وتواطؤها وخصوماتها في الوقت نفسه، وتقاطع تبادلها الأدوار الإيجابية والسلبية بإزاء بعضها كما بإزاء العهود. بالتناوب في ما مضى، أدارت ثنائية رئاسة الحكومة والزعامة المحلية فصولاً طويلة من الحياة السياسية اللبنانية، مجاورة آنذاك المارونية السياسية كتوأم لها، وفي الوقت ذاته غريماً وخصماً يسعه أن يمسي عدواً. تقلّب الأدوار بين بيروت وطرابلس وصيدا من خلال لامركزية الزعامة السنّية، ستقابله مركزية حتمية هي ذهاب رئاسة الجمهورية إلى جبل لبنان حصراً. يوم وقع الاستثناء عام 1970، وجيء بزعيم شمالي إلى قصر بعبدا، كان الانطباع الشائع أن الرئيس الجديد ابن جبل لبنان بالثقافة السياسية التي كانت تدير النظام.

 

لم يستقل بشارة الخوري عام 1952 لأن المعارضة الممثّلة بالجبهة الاشتراكية الوطنية أقفلت الأسواق في بيروت وأحجم قائد الجيش فؤاد شهاب عن إنزال الجيش لقمعها فحسب. كان ثمة سبب آخر وجيه وراء إيصاد الأبواب في وجه الرئيس شجّع المعارضة على المغالاة في المواجهة، هو امتناع الزعماء السنّة عن التعاون معه. أولهم سامي الصلح باستقالة حكومته في مجلس النواب، ثم تردد ناظم عكاري وصائب سلام وحسين العويني في تأليف حكومة تنقذ عهد الرئيس، في موازاة تبلغه من رشيد كرامي وسعدي المنلا الموقف نفسه. كان فقد حليفه المؤسِّس لولايتيْه وعراب تجديد انتخابه رياض الصلح. سبق اغتياله خلافه مع الرئيس وانفصاله عنه، ففُضّت عام 1951 أول شراكة مارونية – سنّية في حكم البلاد واستقلالها، وعُدّت في ذلك الوقت نموذجية للأجيال التالية يؤتى على ذكرها للاتعاظ والاعتبار. أولئك هم الآباء الأولون للسنّية السياسية.

الشراكة الأولى تلك، المؤسِّسة لعهد الشيخ بشارة، لم تتكرر مذَّاك. على مر العهود التالية سينقسم الزعماء السنّة، من غير أن يفقدوا وحدة السنّية السياسية، ويضطلعون بأدوار متفاوتة متقلبة، تبدأ بانتخاب الرئيس وتمر بالتعاون معه وتنتهي بالانقلاب عليه والذهاب إلى خلفه. بضغوط مباشرة من قائد ثالث الانقلابات العسكرية السورية أديب الشيشكلي، سيدين كميل شمعون للنواب السنّة في بيروت وطرابلس بالذات بترجيح كفّته على حميد فرنجية في انتخابات 1952، قبل أن ينقلب عليه صائب سلام ورشيد كرامي وعبدالله اليافي إبان ترؤسهم حكومات عهده ويصيروا من غلاة المطالبين بإسقاطه قبل نهاية ولايته. اجتماع رشيد كرامي وصائب سلام على المناداة بإطاحة كميل شمعون، وإن بالعنف، سيتحوّل إلى انقسام سنّي مباشر من حول عهد فؤاد شهاب. كلاهما ترأّس أكثر من حكومة فيه، بيد أن موقعيْهما منه مختلفان تماماً. تحوّل الأول إلى خصم شرس، فيما الثاني إلى حليف دائم كي يكون رأس حربة في السعي إلى تجديد انتخابه ولاية ثانية. ذلك ما سيُغيّب صائب سلام عن الولاية التالية لشارل حلو بأن يحلّ شريك سنّي ثان مع رشيد كرامي هو عبدالله اليافي في العهد إلى أن يحين أوان الوصول إلى رئاسة سليمان فرنجية، كي يظن الزعيم البيروتي أنه سيرافقها في سنواتها الست.

 

 

ليست وحدها العلاقة بالرؤساء الموارنة اختبرتها السنّية السياسية. كانت كذلك الأب الأول للأعراف غير المدوَّنة. من خلالها ستفرض – إلى أن يحين أوان إدماجها في الدستور – الشراكة الناقصة في الحكم. من ذلك حاجة كل رئيس قبل أن يُنتخب، وفي سبيل أن يُنتخب، وأن يباشر ولايته بعد انتخابه، إلى ذاك الشريك السنّي. ثم لا يلبث في منتصف الولاية أن يُعدّ نفسه إما للتخلص منه أو الرضوخ له. في كل عهد رئيس نموذج من تلك الثنائية المارونية – السنّية المرشحة منذ سابقة 1951 لأن لا تعمر عهداً كاملاً. وحدها ولاية فؤاد شهاب كانت الاستثناء.

أول الأعراف المدوَّنة استشارات نيابية تسبق تأليف الحكومة لتسمية الرئيس المكلف، ثانيها التسليم بإرادة الطائفة في تسميته، ثالثها تقاسمهما تأليف الحكومة، رابعها التوقيع الملزم لرئيس الحكومة على كل المراسيم التي يصدرها رئيس الجمهورية، خامسها التعامل مع الغالبية النيابية الموالية على أنها ضمان استمرار الحكومة، سادسها التعاون للحصول على صلاحيات اشتراعية من مجلس النواب، سابعها حل مجلس النواب، ثامنها الذهاب إلى تجديد ولاية رئيس الجمهورية.

 

ما لم يقدّمه الدستور للسُّنّية السياسية كرّسته لها الأعراف غير المدوّنة

 

ذلك ما سيتحقق في الرئاسة الثلاث الأُوَل مع بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وينتظم تطبيق الأعراف خلالها. لم تنشأ على مرّها أزمات حكومية كالتي ستتواتر في العهدين التاليين يوم قرر شارل حلو عام 1966 تجاهل تسمية الغالبية السنّية رشيد كرامي لرئاسة الحكومة بأن أحلّ عبدالله اليافي محله، وعندما أعاد سليمان فرنجية المحاولة مرتين، أولى عام 1973 باختيار أمين الحافظ لم تسمّه الغالبية تلك، وثانية عام 1975 بتجاوز إرادتها في تسمية ضابط متقاعد هو نور الدين الرفاعي. سيكون الرئيس كذلك أسير السنّية السياسية نفسها ثلاث مرات على الأقل: عندما يُرغم شارل حلو على ترئيس عبدالله اليافي حكومة رباعية عام 1968 فتنفجر من الداخل، ثم عندما يُرغم السنة التالية على الإذعان لامتناع رشيد كرامي عن تأليف حكومة قبل إتمام اتفاق لبناني – فلسطيني، ثم عندما يُحمل سليمان فرنجية خلافاً لإرادته على ترئيس رشيد كرامي حكومة عام 1975.

ليست وحدها الأعراف غير المدوَّنة كرّستها السنّية السياسية. أدخلت بدورها الخيارات الإقليمية ودور الجيش في النزاعات الوطنية كي تفرّق بين رئيسي الجمهورية والحكومة المفترض أنهما متعاونان: اختلف سليمان فرنجية أربع مرات على التوالي مع رئيس حكومته: مع صائب سلام ثم أمين الحافظ عام 1973 ومع رشيد الصلح ورشيد كرامي عام 1975. مع أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش، بيد أن العُرف غير المُدوَّن المستعان به أن لا تُستخدم الآلة العسكرية إلا بتفاهم الرئيسين.

تلك السنّية السياسية عاشت طويلاً حتى عشية اتفاق الطائف، على أنها النموذج الذي كان أحد ضحايا الحرب الأهلية.

 

 

الحريريّة السياسيّة: الجميع في واحد

في تاريخ لبنان، مذ وُضع الدستور، بصمات لا تُمحى لزعماء سُنّة. محمد الجسر رئيس مجلس الشيوخ ثم رئيس مجلس النواب عندما طُرح اسمه لرئاسة الجمهورية عام 1932 وإن دونما توقّع انتخابه، إلا أن وزر انبثاق ترشيحه من ماروني حمل الانتداب على تعليق الدستور. خير الدين الأحدب أول سنّي حلّ في رئاسة الحكومة في مطلع عهد إميل إده كي ينشئ مذَّاك عُرف تخصيص الطائفة بالمنصب. قبله جلس على كرسي رئاسة الحكومة موارنة. من ثم تعاقب الصلحيون بدءاً بأولهم سامي فرياض مروراً بعد عقود بتقيّ الدين واختتاماً برشيد. العائلة الثانية المتعاقبة على تعاقب الأجيال عبد الحميد كرامي فرشيد فعمر. لم يُعدّ حتى ذلك الوقت وصول مفتين إلى أعلى السلطات كمحمد الجسر وعبد الحميد كرامي خللاً في صورة الدولة اللبنانية المدنية المنبثقة من دستور 1926. ثالثة العائلات وإن في مراحل متباعدة صائب سلام ثم بعد وقت طويل نجله تمام. كذلك سيظهر زعماء سنّة متفرّدون في نماذج مثّلوها كالمثقفين عبدالله اليافي وأمين الحافظ وسليم الحص وشفيق الوزان ورجل الأعمال الواسع النفوذ في السعودية وصديق مؤسسها عبد العزيز حسين العويني، إلى أسماء عابرة كأحمد الداعوق وسعدي المنلا وخالد شهاب وناظم عكاري في محطات انتقالية.

بيد أن أياً منهم لا يشبه رفيق الحريري وسرّه. وحده الرجل تجرّأ على ما لم يفعله أحدهم أو يكون خطر في باله. أن لا يكتفي بأن يختصر مواقع الطائفة به، ثم الطائفة نفسها في ذاته ويذوّبها في صورته، وأن تنبثق منه في حياته ثم بعد اغتياله مدرسة تطلّب أفولها أو يكاد بعض السنوات والكثير من الأخطاء الجسيمة، وأن لا تسقط من تلقائها بل ممن صنع صعودها ثم ألغاها.

 

أسلافه جميعاً عُرفوا من مدنهم وفيها، فيما عُرف هو بحياة عادية نصفها معلوم ونصفها غامض. بدأ في صيدا ثم انتقل إلى حركة القوميين العرب في جامعة بيروت العربية، ذهاباً إلى السعودية، من ثمّ بمرور سنوات يتعرّف إليه اللبنانيون كوسيط سعودي بصورة ألفوها في الصيداوي لابساً الكوفية والعقال. أثرى لبناني، لكنه أيضاً العابر القارات، المصغى إليه في مجالس الملوك والأمراء والرؤساء.

ليس معروفاً في تاريخ لبنان حتى ظهور رفيق الحريري ودخوله السراي سوى اقتران الزعماء السُّنّة بالعهود كما لو أنهم جزء لا يتجزأ منها، سواء بموالاتهم إياها أو بمعارضتها. عبدالله اليافي اقترن بكتلوية إميل إده، ورياض الصلح بدستورية بشارة الخوري، وسامي الصلح بشمعونية كميل شمعون ورشيد كرامي بشهابية فؤاد شهاب ثم لاحقاً وعبدالله اليافي بشارل حلو. كانت ثمة فوارق مهمة يُدَلّ عليها بالإصبع كخلاف صائب سلام مع فؤاد شهاب، ثم مقاسمته سليمان فرنجية نصف عهده قبل الانقلاب عليه. كذلك مرافقة سليم الحص ثلثي عهد صديقه الياس سركيس قبل أن يختلفا ويتباعدا.

ذلك هو جيل الآباء المؤسّسين للزعامة السنّية في السراي الصغير قبل هدمه عام 1951 ثم في السراي الكبير لاحقاً، القشلة العثمانية، إلى اليوم. مع أن هؤلاء جيل الآباء المرافق للجمهوريتين الأولى (1926 – 1943) والثانية (1943 – 1990)، بيد أن أياً منهم، وبينهم رجالات دولة وزعماء، لم يملك الخروج من صورة العهد المطبوع به ويقلب المعادلة رأساً على عقب على نحو ما فعل رفيق الحريري: أن تُطبَع به العهود. أن يكون رئيس الجمهورية إلى جانبه لا العكس، ولا قبالته، ولا يفوز عليه دائماً. أن يكون رابحاً عندما يربح ورابحاً عندما يخسر.

 

تلك صورة استثنائية لما عُرف، في غيابه أكثر منه في ظله، «الحريرية السياسية». انبثقت التسمية بعد اغتياله مع أنها مثّلت الظاهرة برمّتها في حياته. عاشت الكتلوية والدستورية مدرستين في حياة مؤسّسيهما واندثرتا برحيلهما. كذلك الشهابية صعدت في ظل فؤاد شهاب وغارت في الماضي بعد غيابه. اللافت أن المدرسة السياسية، للمفارقة أو المصادفة، كانت تولد في بيت مسيحي كأولئك. لذا عُرف عن رؤساء الحكومات المتعاقبين في عهود المدارس تلك وسواها أنهم الوجه المكمّل لرئيس الجمهورية والشريك السياسي، وأحياناً تحت وطأة الأحداث والخيارات والأزمان، الخصم المناوئ له.

ليس لدى الآباء الأوائل للسنّية السياسية تلاميذ تخرّجوا فيها شأن ما قيل في الكتلوية والدستورية والشهابية آنذاك. كان رجالها هم ذواتهم. تُختَصَر المدرسة بالرجل. الأصح أنها لم تكن مرة عندهم مدرسة. ترجّحت الزعامة بين الشعبية وأسلوب الحكم والتفاف الطائفة من حوله في مرحلة المحنة وتعلقه بالخيار الإقليمي النافذ. من خلال الحاجات هذه في تكريس الزعامة ولجوا إلى النزاعات والحلول في السلم والحرب، بين «ثورة 1958» و«حرب السنتين». لم تكن شخصية رشيد كرامي الباردة تشبه شخصية صائب سلام المتصلّبة، ولا شخصية عبدالله اليافي الهادئة الدمثة تشبه شخصيتي حسين العويني وتقي الدين الصلح المنفتحتين على التسوية. الأكثر تعبيراً عنها المأثور عن «الحاج حسين» قوله «لا هيك ولا هيك». ربما الأصح أيضاً في استنتاج الحقب تلك القول في الآباء هؤلاء، ما خلا حالات التنافر الإقليمي وصدام الخيارات، والأبرز اثنتان الناصرية والمقاومة الفلسطينية، أنهم المؤسسون الأولون لفكرة التسوية، المدينة للأولين رياض وتقيّ الدين الصلح. من ثم درج الباقون في المحافظة على الفكرة.

 

أما رفيق الحريري فحقبة مختلفة تماماً. لم تعد ثمة مدن لرؤساء الحكومات السابقين، لا بيروت ولا طرابلس ولا صيدا. لا مرجعية تشبه «قمة عرمون» الإسلامية لا السنّية، ولا «التجمع الإسلامي» ولا من بعده «اللقاء الإسلامي» السنّيان. البيوت السياسية إما مهجورة أو يسكنها وارثون معزولون.

احتاج ظهوره إلى ضمور أولئك تباعاً بالوفاة أو الاغتيال أو الانكفاء الطوعي أو العزلة. على طرف نقيض منهم، تطلّب حضوره التدريجي المكوث في الظل المتقطع. أول محسن كبير تعرفه الجمهورية في تاريخها لم يُفصَح أنه يتوخى دوراً سياسياً علنياً، فيما السراي يدور في مخيلته منذ مطلع الثمانينيات. ورث السفير فالوزير السعودي علي الشاعر في تعاطي الملف اللبناني، ثم جلس وراء الأمير بندر بضعة أشهر عام 1983 يرافقه في زيارته لدمشق لوقف النار بين أمين الجميّل ومعارضيه. مذَّاك صار لبنان ملفه. كان العضو السرّي الرابع في الاتفاق الثلاثي عام 1985 مع وليد جنبلاط ونبيه برّي والياس حبيقة. الأخير دان له بجهود تقريبه من السوريين. عندما عزمت دمشق على إقصاء السُّنّة عن الاتفاق الثلاثي بذريعة أنه اتفاق ميليشيات فيما هم طائفة عزلاء، كانت تصبّ وقتذاك جام غضبها عليها، وتستعد للانتقال بأولئك إلى النسيان. أغضبها أن أقرب حلفائها رشيد كرامي كان ضد الاتفاق. مع ذلك مضت في وضع مسوّدة تدوين الأعراف في نصوص، وانتقال الحكم إلى مجلس الوزراء، وتحضير رفيق الحريري لدخول السراي. ذلك كله سيتحقق تباعاً في اتفاق الطائف وبعده. لذا غدا من الطبيعي أن لا يصل إلى الحكم إلا في ظل الصلاحيات المكتوبة التي وُضعت له، ومن أجله. مذَّاك أضحى «السيد لبنان»، اللقب الذي أضفاه الغرب عليه كي يختصر البلد الذي راح يترأّس حكوماته.