أقفل الرئيس سعد الحريري كل الطرق المؤدية الى استغلال «العلم الأزرق» في الانتخابات النيابية بسلسلة حديدية مقفلة. وهو ما دفع الى بلبلة في قراءة التوجّهات الانتخابية، بما يتجاوز الشارع السنّي، إلى ذلك الذي كان على تماس معه. فالمِهل القصيرة الفاصلة عن الانتخابات، قادت إلى السباق المحموم لاستيعاب تداعيات ما حصل. وهو ما ادّى الى تصنيف جديد ومتدرّج، للساعين الى اجتذاب الشارع السنّي. وعليه ما الذي جاء به؟
لم يعد الحديث عن التداعيات التي تركها قرار الحريري بالعزوف شخصياً، ومعه تيار «المستقبل»، عن العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات النيابية. فما تشهده أكثرية الدوائر الانتخابية عبّر بما فيه الكفاية عن النتائج التي ترتبت على هذا القرار، وما يحمله من مستجدات أعاقت ولادة كثير من التحالفات، وضمور في موجة الترشيحات، على مسافة أقل من شهر بأيام على إقفال بابها في 15 آذار المقبل. وهو ما سمح بكثير من التكهنات والسيناريوهات التي تثير الاستغراب، ممزوجة بالقلق على مصير عدد من التفاهمات السابقة قبل عملية خلط الأوراق.
ومن هذه المعادلة بالذات، لا يمكن إحصاء التحرّكات القائمة من جوانبها المختلفة، وما يُطبخ في السرّ والعلن، في ظل مجموعة الدراسات الإحصائية التي وضعتها الماكينات الإنتخابية، وتلك التي تقوم بها شركات متخصصة على مساحة الدوائر الانتخابية الخمسة عشرة. فقد حملت معطيات توحي بكثير من الغموض في قراءة توجّهات فئات واسعة من الناخبين الذين ينتظرون حتى الساعات الاخيرة لقول الكلمة الفصل لمن ستكون أصواتهم التفضيلية. فملامح المواجهة لا تُختصر بالحملات الإعلامية المتبادلة للتحشيد المذهبي بين هذا الحزب أو ذاك او هذه الشخصية او تلك. فالموجات الشعبية لم تعد تُقاس على أساس الفرز السابق بين «جبهتين عريضتين» كما من قبل، وخصوصاً بعدما أحيت التطورات الأخيرة أمجاد بعض العائلات السياسية والمناطقية، وتلك التي استفادت من سقوط بعض المحادل التي كانت ترسم نتائج الانتخابات سلفاً.
ثمة من يعتقد انّ في هذه «الضبابية» التي تلفّ العملية الانتخابية، مظهراً من مظاهر الديموقراطية المبدئية، على قاعدة بروز نوع من «الغموض البنّاء» الذي يمكن ان يحرّر فئات واسعة من الناخبين من الضغوط السابقة التي كانت تدفع بهم «عاطفياً» الى صناديق الاقتراع. فمعظم الأطراف لا يمكنهم تجاهل ما تركته الأزمات المتناسلة من تردّد في ممارسة الحق في الانتخاب، وهو ما قد يؤدي – إن تنامى حجمه – إلى بعض المفاجآت غير المحسوبة في صناديق الاقتراع. ولكن بعض العارفين يعزون ذلك إلى سقوط كثير من النتائج التي أفضت اليها إحصائيات انتخابية سابقة، وخصوصاً إن نجحت المساعي المبذولة لتوليد لوائح على قواعد نسيها بعض اللبنانيين في مرحلة المواجهة بين فريقي 8 و14 آذار، وأخرى قد تحمل صوراً وصفات واشكالاً «عجائبية» لاستكمال بناء الحواصل في هذه الدائرة او تلك.
وعلى وقع هذه القراءة الشاملة للمشهد الإنتخابي، فإنّه، وإلى جانب ارتفاع نسبة الناخبين الذين انتقلوا إلى ضفة «المساحة الرمادية» مما كان مقدّراً ما بين 38 و42% حسب إحدى الدراسات السابقة، هناك أخرى أجرتها المؤسسة عينها، تتحدث عن ارتفاع هذه النسبة الى ما يتجاوز 53% من اللبنانيين المتردّدين، والأخطر فيها انّ نسبة المعتكفين فاقت 18% منهم في بعض الدوائر الانتخابية، وهي ليست محصورة بـ«دوائر الأطراف» كما كانت تصنّف.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات الانتخابية، فإنّ بعض المراقبين المعنيين بالعملية الانتخابية توقفوا باهتمام امام ما يمكن تسميته توجّهات «الشارع السنّي»، ما لم تظهر قيادة جامعة جديدة لقراءة المشهد المتوقع في عدد من الدوائر الكبرى التي كان يديرها تيار «المستقبل» بطريقة متكاملة، في محاولة لاستشراف ما ستعكسه من مشهد سياسي يلي إقفال صناديق الاقتراع ويمسّ مباشرة بالخريطة النيابية، التي عبّر البعض عن خشيته مما ستكون عليه بغياب مكوّن أساسي وقوة مماثلة لتلك التي كان يمثلها «التيار الأزرق». وعلى هذه الخلفية، فقد أجرى هؤلاء جردة بالقوى والأطراف التي تسعى الى وراثته وفق تصنيف جديد يحمل مؤشرات لافتة.
وإن دخل هؤلاء في تفاصيل التصنيف الجديد، فبعد استثناء موقف «الثنائي الشيعي» من فقدان القوة السنّية المقابلة وما تسبّب به «غياب» تيار «المستقبل» من إرباك محدود، فقد وضع بعض القوى السياسية والحزبية التي كانت في مراحل سابقة من حلفائه، في طريقة متدرجة. وتقدّمت هؤلاء القوى التي يمكن ان تخسر بعض مقاعدها بعد فقدان الرافعة «المستقبلية» في دوائر مختلطة. وهي خريطة تشير الى دائرة بيروت الثانية والشوف – عاليه والبقاع الغربي ـ راشيا، بالنسبة الى «الحزب التقدمي الإشتراكي»، وزحلة وعكار بالنسبة الى «القوات اللبنانية» كما في دائرة بيروت الاولى والبترون ـ الكورة ـ بشري وزغرتا وعكار بالنسبة الى «التيار الوطني الحر». ولا تغفل هذه المعادلة المخاطر الموجودة في دوائر اخرى ولو بنحو أقل نسبة، حيث تشكّل القوة السنّية الناخبة من المجنسين ثقلاً لا يمكن تجاوزه.
واللافت في هذا التصنيف، انّه على الرغم من حجم اللغط الحاصل من ضمن الساحة السنّية بين «المستقبل» وحركة «سوى للبنان»، فقد وضع التصنيف هذه الحركة التي يقودها بهاء رفيق الحريري في مرتبة أبعدتها مرحلياً عن التجاذبات على الساحة السنّية. فالحركة توفّر الدعم لمرشحين في دوائر متعددة، وتقدّمهم في وقت قريب على مساحة تتجاوز هذه الساحة، لتدخل الى ساحات مشتركة بعيداً من الفرز المذهبي للوائح. ومن بين المدعومين هناك مرشحون من هم من مختلف الطوائف ومن القوى التغييرية، على أساس برامج سياسية وإنمائية تتجاوز الساحة السنّية المحدودة الى مساحة وطنية أوسع. فما تطرحه الحركة وراعيها على مستوى المواجهة مع السلاح غير الشرعي، ومكافحة الفساد ومنظومتها، والتأكيد على حياد لبنان وإحياء مبدأ «النأي بالنفس» ووقف التدخّلات في شؤون دول الخليج، أبعدها عن المجال المذهبي السنّي لتناولها عناوين أبعد من اهتماماته وتستهوي الناخبين في دوائر متعدّدة على مساحة لبنان.
إلّا انّ التصنيف عبّر عن قلق مبرّر من تنامي هذه القوة الناشئة على الساحة السّنية، بحديثها عمّن يبحث يومياً ومنذ فترة، لرصد علاقتها مع الدول الخليجية، للتأكّد من حجم دعمها بطريقة من الطرق إلى جانب قوى أخرى، لتبنّي حركة من يسمّونه «الحريري الثاني». ولا غرابة في أن يكبر هذا القلق كلما اطلّع على التغطية الواسعة لمواقف بهاء الحريري في الصحف الخليجية وخصوصاً السعودية منها. ففي ذلك ما يؤشر الى احتمالات تحاكي ما هو منتظر بعد انكفاء «المستقبل» وابتعاده عن الحياة السياسية في لبنان.