Site icon IMLebanon

تشرذم النواب السنَّة وتحذيرات مفتي الجمهورية

 

لم يعد خافياً أن حالة التشرذم والضياع المهيمنة على الوضع السياسي السنّي، قد فاقمت الخلل المتزايد في توازنات المعادلة الوطنية، وأطلقت العنان لإستنزاف مقومات الدولة وقدراتها على التصدي لتحديات الأزمة، فضلاً عن النيل من هيبة رئاسة الحكومة، وفعالية السلطة التنفيذية المكونة من مجلس الوزراء مجتمعاً.

لعلها المرة الأولى منذ فجر العهد الإستقلالي، التي يفتقد فيها أهل السنّة لزعامة سياسية، تُعبر عن آمالهم وتطلعاتهم، وتعمل على تحقيق مصالحهم، ويكون لها مشاركة قيادية مع الشركاء في القرار. وذلك بسبب النزعات الأنانية الطاغية على معظم النواب السنّة، وحرص كل منهم على المعايير الشخصية والمناطقية في التعاطي في الشأن السياسي، لا سيما في الإستحقاقات المفصلية، مثل الإنتخابات الرئاسية، وفي المشاورات الملزمة لتسمية الرئيس المكلف.

عندما كان الرئيس نبيه برّي يعدّ لطاولة الحوار، خصص لكل مكون وطني وفدين أو ثلاثة، حسب عدد الكتل النيابية لكل طائفة، وعندما وصل للنواب السنّة، وجد نفسه أمام ستة وفود، موزعة على كتل نواب عكار وطرابلس وبيروت وصيدا والبقاع والمستقلين، وهي خطوة غير مسبوقة في تاريخ الحوارات اللبنانية.

حاول مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، أن يتدارك مضاعفات هذا الواقع غير السويّ، فبادر باكراً، إثر الإنتخابات النيابية الأخيرة، إلى الدعوة لعقد إجتماع موسّع لنواب الطائفة في دار الفتوى، كان جدول أعماله بنداً جوهرياً واحداً: تنسيق المواقف، وتقريب وجهات النظر، والعمل على إنشاء كتلة نيابية وازنة، أو على الأقل تعاون الكتل السنّية في الحفاظ على فعالية التمثيل السنّي في مجلس النواب. والباقي تفاصيل لا لزوم للخوض في ثناياها.

ولكن مفعول هذا الإجتماع، وما واكبه من مناشدة، بل ودعوة مفتي الجمهورية الملحّة لتوحيد الصف ما أمكن، والحرص على تنسيق المواقف، لم يدم أكثر من بضعة أيام، عاد بعدها الوضع النيابي السنّي إلى تشرذمه السابق، وكأن إجتماع دار الفتوى لم يكن، وذهبت الأمنيات والقرارات أدراج الأنانيات والحسابات الشخصية، في إنتخابات رئاسة مجلس النواب واللجان النيابية.

ظهرت بارقة جديدة عبر الإجتماع الذي دعا إليه النائب فؤاد مخزومي وضم ١٤ نائباً سنياً من بيروت ومختلف المناطق، ولكن هذه البارقة سرعان ما تلاشت بسرعة البرق، على إيقاع الهواجس والأحلام الوهمية، حيث عاد كل نائب إلى مربعه.

وتوالت الجلسات الإنتخابية النيابية، وكان الصوت السنّي فيها ضائعاً بين الورقة البيضاء، أو التصويت المتعدد الخيارات بين أكثر من مرشح، الأمر الذي أدّى إلى فقدان فعالية المشاركة السنّية، التي كانت حتى الأمس القريب محور إستقطاب الكتل الكبيرة والصغيرة في مجلس النواب، لا سيّما خلال الإستحقاقات الكبرى .

إلى أن كانت جلسة ١٤ حزيران الحاسمة في إطلاق العملية الإنتخابية بين المرشحيْن الرئيسييْن سليمان فرنجية وجهاد أزعور، فظهر تشرذم الأصوات السنّية بأبشع صوره، مما أثار جدلاً واسعاً في أوساط النخب المدنية والدينية، كانت دار الفتوى محوره الأساسي.

حرص مفتي الجمهورية على تجديد مساعيه بهدوء وبعيداً عن الإعلام، فعقد لقاءات مع النواب، منفردين ومجتمعين في كتلهم، مشدداً على أهمية الحفاظ على الدور السنّي في المعادلة الوطنية، وعلى ضرورة العمل على تنسيق المواقف، في حال تعذر الوصول إلى توحيد الخيارات، ولكن التجاوب بقي محدوداً، وبقي في إطار الوعود الكلامية.

قرع المرجع الروحي الأعلى لأهل السنّة جرس الإنذار للنواب المتقاعسين، في كلمته بمناسبة رأس السنة الهجرية، محملاً أياهم المسؤولية الوطنية في القيام بواجباتهم الدستورية والميثاقية، بما يتطلبه إنقاذ الوطن من ترفّع عن الأنانيات والمصالح الشخصية، والتفاهم مع الشريك في الوطن على سبل الإنقاذ، وإنهاء الشغور الرئاسي.

أهمية كلام مفتي الجمهورية تكمن بتجاوزه الخطاب المذهبي والطائفي والفئوي، إلى رحاب الفضاء الوطني، مؤكداً على حزمة من الثوابت الوطنية التي طالما أكدتها دار الفتوى، بدءاً بالتمسك بإتفاق الطائف، وإلحفاظ على توازنات المعادلة الوطنية، وحق الآخر بالإختلاف، وإعتماد الحوار لحل الخلافات، والذهاب إلى الدولة المدنية للتخلص من شرور الطائفية، فضلاً عن المطالبة المستمرة بتسريع إنتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة قادرة على وضع البلد على طريق الإنقاذ.

الواقع أن الكلام القوي اللهجة الذي يوجهه المفتي دريان لنواب الطائفة ينطوي على تحذيرات واضحة من محاولات إختراق الصوت النيابي السنّي، وتجييره لغايات في نفس يعقوب، ولمصالح فئوية وحزبية، لا ناقة لأهل السنّة والجماعة فيها، بل قد تزيد من تعقيدات الأزمة التي يتخبط فيها لبنان منذ سنوات.

وغني عن القول أن استمرار هذا الأداء المشرذم لنواب السنّة يُضعف شرعيتهم الإنتخابية، ويهدد مستقبلهم السياسي، على إيقاع خيبات الأمل ومشاعر الإحباط السائدة في البيئة السنّية، بسبب شعورهم بالغبن والتهميش نتيجة إفتقادهم القيادة السياسية القادرة والواعية لمسؤولياتها الوطنية والدستورية، في هذه المرحلة الصعبة، والبالغة التعقيد.