ما شهدته بيروت وطرابلس من حرائق التخريب والاعتداءات على الأملاك العامة والخاصة، وما سبقها من إطلالة شبح الفتنة الطائفية في عين الرمانة، والمذهبية في كورنيش المزرعة، هي جولة من مسلسل الاضطرابات الأمنية والمعيشية، التي ستتوالى فصولها تباعاً، في إطار حملات الضغط والحصار التي يتعرّض لها لبنان منذ فترة، بسبب العقوبات الأميركية والغربية على إيران و«حزب الله».
الخطورة في كل ما يجري أن شبح الفتنة اتخذ من الوجع المعيشي لباساً، وأطلق في الشارع مجموعات الغوغاء والاستفزاز، لشحن الأجواء وإحياء العصبية الجاهلية، وأخذ البلد إلى مشهد بعيد عن الأزمة المعيشية الخانقة ومسبباتها الحقيقية، والتي اختلطت فيها عوامل الفساد السياسي مع عواقب الحصار الاقتصادي، وأوصلت البلد إلى هاوية الإفلاس الحالي.
والأخطر في كل ذلك، أن حملات التخريب والمواجهات الملتبسة مع القوى الأمنية اقتصرت على العاصمتين: الأولى والثانية، وكأن ثمّة مخطط لشيطنة الحراك الوطني في بيروت وطرابلس، وتشوية صورة المدينتين الحاضنتين للوحدة الوطنية، والإساءة لتركيبتهما الاجتماعية التي تُجسّد ألوان كل الأطياف اللبنانية، فضلاً عن استهداف دور الطائفة السنّية التي تشكل الأغلبية في العاصمتين المعصومتين.
وبدا واضحاً أن ثمّة استغلالاً انتهازياً لواقع الشرذمة والتفتت لدى أهل السنّة والجماعة، والعمل على التوظيف البشع للحالة الاجتماعية المتردية في أوساط الشباب، والناتجة عن تفشي البطالة، وافتقاد لقمة العيش، إلى جانب الضرب على وتر الإحباط والشعور بالغبن السائد لدى الغالبية العظمى من أهل السنّة، بعد الخيبات المتتالية التي أصابت منهم جروحاً عميقة، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
من غياب المشاريع الإنمائية والإنتاجية، إلى افتقاد الدعم السياسي اللازم للوصول إلى الوظيفة العامة، إلى التهاون المتزايد في الحفاظ على حصة الطائفة في المراكز الأولى، والعديد منها شاغر ومشغول من الغير بالتكليف أو الوكالة منذ سنوات «!»، إلى سكوت القيادات المعنية عن انعدام التوازن في العديد من الإدارات والأسلاك غير المدنية، إلى التعثر المستمر عن رفع الظلم عن المعتقلين في السجون من دون محاكمات منذ سنوات وسنوات…، كلها عناصر تزيد من حالة الاضطراب والغليان في الشارع السنّي، وتجعله ساحة لتبادل الرسائل بين المحلي والإقليمي، ومسرحاً لتصفية الحسابات بين القوى المتصارعة في المنطقة.
ومما زاد الوضع تعقيداً، عدم قيام رئاسة الحكومة بدور الرافعة للخروج من هذا الوضع المتأزم، منذ عقد التسوية الرئاسية، والخلل الذي أصاب معادلة الرئيس القوي في طائفته، والذي بلغ أوجه مع رئيس الحكومة «التكنوقراط» حسان دياب.
ولكن مبالغة بعض الأطراف في استغلال هذا الواقع المتردّي في بيروت وطرابلس، من شأنه أن يدفع باتجاه تغليب كفة التطرّف على كفة الاعتدال، التي يحرص حكماء الطائفة على حمايتها والحفاظ على فعاليتها حتى الآن، ولكن لا أحد يستطيع أن يضمن استمرار المعادلة لمصلحة المعتدلين، في حال بقيت محاولات التحرش والاستفزاز على شيطنتها الراهنة، مما قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على ردود الفعل، ورجحان كفّة التطرّف، ومقابلة العنف الحالي من الآخرين بما يستحقه من ردٍ وردع، مع كل ما يحمل ذلك من تهديد جدّي للسلم الأهلي.
ما جرى في كورنيش المزرعة تحوطه الكثير من الالتباسات وعلامات الاستفهام، ولا يُعبّر عن غضب الشارع السنّي بحقيقته، بقدر ما كان أشبه بسيناريو لإبراز دور مزعوم لبعض الطارئين على العمل السياسي والوطني، واستغلال حالة الضياع والفراغ السائدة في أوساط أهل الجماعة. وبالتالي فإن تقييم الوضع على نتائج تلك الليلة الظلماء يكون مغلوطاً، وبعيداً عن الواقع الحقيقي الذي يمكن أن يظهر فجأة عندما تدعو الحاجة الحاسمة لذلك.
فمن يحاول استغلال إحباط أهل السنّة ويدفع بالشارع السنّي إلى التطرّف؟