لعن الله من يُوقظ الفتنة ليدعم مخططاته السياسية، ولينتقم الله مِن كل مَن يلعب بنيران الفتنة ليحقق طموحاته الشخصية، ولو على حساب أمن بلده وأمان شعبه!
تاريخ لبنان الطويل يشهد لأهل السنة والجماعة أنهم لم يكونوا يوماً من أهل الفتن، ولم يشاركوا يوماً في الحروب الداخلية، وكانوا طوال الحرب القذرة بمثابة جسر الحوار والتواصل بين مختلف الأطراف المتصارعة، وكان لقادتهم دور كبير في التوصل لاتفاق الطائف وإنهاء سنوات القتال العبثي، الذي لم يرحم بشراً ولا حجراً.
لم ينخرطوا في حروب الميليشيات، لم يساهموا في إذكاء الانقسامات، ولم يخوضوا في المعارك الطائفية أو المذهبية ولا حتى المناطقية. وتصدى قادتهم الروحيون والسياسيون لمخططات الإدارة الذاتية وأخواتها من الأدوات التقسيمية.
وفيما حافظوا على كل ما يُنقذ صيغة العيش المشترك مع الشريك المسيحي، كان المسيحيون يخوضون حروب الإلغاء وهيمنة الفريق الواحد على بقية الفرقاء في مناطقهم. الأمر الذي انتهى بضرب وحدة وأمن المجتمع المسيحي، وزرع بذور الحقد والكراهية بين مكوناته، وتشتت مركزية القرار المسيحي، وبالتالي تراجعت قوة المشاركة المسيحية في القرار الوطني، بعد نفي الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون إلى باريس، والحكم على الدكتور سمير جعجع بالسجن، ووقوع حزب الكتائب أسيراً للنفوذ السوري.
التفاصيل الميدانية واليومية لهذه العناوين العريضة، يبدو إنها غائبة عن ذاكرة الوزير جبران باسيل، أو أنه لم يكن بلغ من العمر عتياً ليُدرك أبعاد تلك الأحداث التي أسست للواقع السياسي الذي امتد زهاء ربع قرن من الزمن لاحقاً، والذي ما زالت بعض تداعياته السلبية تبرز على السطح عند كل خلاف بين «التيار الوطني» و«القوات اللبنانية»، بعدما انهارت كل صيغ التفاهم بين الرابية ومعراب.
المفارقة الخطيرة التي تحكم خطاب «التيار الوطني» في هذه المرحلة، تكمن في أن الإشكالية الفئوية والحزبية التي يعاني منها «التيار» محاولاً الاستفراد بالقرار المسيحي، وإبعاد الأطراف والأحزاب المسيحية عن حلبة السلطة والنفوذ في الدولة، وخاصة السباق الرئاسي، يريد إلباسها الثوب الطائفي، وافتعال المعارك الدونكيشوتية مع الطائفة السنّية، لشدّ العصب المسيحي الطائفي البغيض، والظهور بمشهد المدافع الأول والوحيد عن الموارنة في لبنان، بحجة السعي الدائب لاسترجاع أيام المارونية السياسية، ونسف دستور الطائف بالممارسة، بعدما تعذر تغيير نصوصه وإسقاطه بالضربة القاضية.
وكل ذلك إن دلّ على شيء فعلى عدم استيعاب حالة الغليان التي تمر بها الطائفة السنّية منذ التسوية الرئاسية، والتي ازدادت تعقيداً على إيقاع قضم المواقع السنّية في الإدارات العامة، والتعيينات الديبلوماسية والأمنية، وفي قانون الانتخابات الأعرج، وفي التحالفات الانتخابية الأنانية، من قبل الشريك الأول في التسوية، الذي أمعنت ممارساته المتهورة في نفور جمهور السنّة من التسوية وتداعياتها السلبية، والتي ظهرت نتائجها السيئة في الانتخابات!
وعوض أن يلاقي «التيار الوطني» شريكه الأساسي في التسوية، الذي فتح له أبواب قصر بعبدا، في منتصف الطريق ويراعي ظروف قاعدته الشعبية، ومتطلباتها الملحة، اعتمد أسلوب المزايدات الطائفية الرخيصة، للنيل مما تبقى من رصيد «المستقبل» الجماهيري!
وجاءت ردود الفعل العنيفة من مختلف الفعاليات السنّية على كلام باسيل الأخير، لتؤكد حجم الغضب المتزايد من حملات التطاول والافتراءات، والتي لا تُقابل بالردود السياسية المناسبة من تيار المستقبل، رئيساً ونواباً، فكان أن اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بمواقف وتعليقات وكليبات جسّدت حالة الرفض للواقع السياسي الحالي، وشددت على المطالبة بإصلاح الخلل الراهن في المعادلة الوطنية، ورافضة كل الشعارات الفارغة في خطابات باسيل، والتي لا تمت إلى الواقع بصلة، بل ما يجري على أرض الواقع هو عكسها تماماً.
وأخيراً لا بد من الاعتراف بأن حالة الخلل والإحباط في الشارع السنّي، بدأت تتحوّل إلى موجة من الغليان والغضب، قد تخرج عن السيطرة إذا لم تُعالج أسبابها في الوقت المناسب!