الاستحالة هي ان تفقد «السنّة» تعدديتها وان تتحول إلى مذهب، والمذهب إلى حركة، والحركة سياسية تهدف إلى إعادة هندسة المجتمع. هو مجتمع بنظر اتباع القادة الجدد يسوده الكفر كما في أيام الجاهلية، صار مجتمعاً جاهلياً، ومن الواجب هدايته، أي إعادة تشكيله. على هذا المنوال سارت الأحزاب الشيوعية والبعثية و «الاخوان المسلمون» و «الوهابية» في العقود الماضية، جميعهم اعتبر ان المجتمع يسوده الفقر والجهل والمرض، اذن يتوجب على أهل الثورة تغييره كي يليق بهم. في نظر «السنّة» الجديدة، يريدون تغيير المجتمع كي يليق بالذات الإلهية، وهذه الذات الإلهية مضمونة لديهم. هم ينطقون باسمها.
أول خطواتهم كانت إفراغ الدين التقليدي من مضمونه. لم يعد يقال «أنّى تكون مصلحة الأمة، فهناك شرع الله»، كما قال ابن حنبل. ولم يعد يقال عن الاعمال إنها حرام ومكروه، ومباح ومستحب وحلال، حُصرت الحياة بين الحرام والحلال وألغيت مساهمة «المباح» و «المكروه» و «المستحب». أصبحتَ إما مؤمنا أو كافراً لديهم. لا مانع ان يقتلوك إذا كنت مسلماً تقليدياً مهما فعلت، فهم يعلمون إرادة الله. نظروا إلى العالم قرأوا فيه دار حرب (هم أي الغرب، الكفار) ولا دار سلم إلا جماعتهم (الغوا بذلك الشيباني، كتاب السير وما بناه المسلمون عبر التاريخ على ذلك). ألغوا يذلك الشيباني ـ كتاب السيَر وما بناه المسلمون عبر التاريخ على ذلك. ألغوا مبادئ الشافعي في نسبية الرأي البشري: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الخصم خطأ يحتمل الصواب». ألغوا كل ما قال به الفقهاء من غلبة الظن، وأبواب الترجيح، والمنزلة بين المنزلتين، والله اعلم، ويصح الوجهان. الحقيقة الإلهية واحدة عندهم. وهم يعرفونها. الله يعمل لديهم. عندما تفقد السنّة تعدديتها، يفقد العالم تعدديته بنظر اتباعها.
تغيير صورة العالم في أذهانهم تبلغ حدها الأقصى. يستخدمون تكنولوجيا الحداثة بكفاءة ويعتقدون أننا في مواجهة ثقافية حضارية مع العالم الخارجي ولا يعلمون أنهم يطبقون نظرية هيتنغتون التي خرجت في بداية التسعينيات، والتي استخدمها المحافظون الجدد لاحتلال العراق، وعودة الاستعمار. كانت كونداليزا رايس تقول «يكرهوننا لما نحن عليه». الحرب الثقافية الحضارية استراتيجية غربية، فخ وقعوا فيه.
يرون العالم الخارجي واحداً وهذا خطأ. ويرون السنّة واحداً وهذا خطأ. لكن الرؤيتين تتكاملان، كل منهما وجه للأخرى. ويعتبرون انهم يخوضون حرباً مع هذا العالم الخارجي. ومن المشكوك فيه ان يكون شعبهم في الموطن الأصلي أو المواطن المكتسبة ميالاً إليهم. وضع الحجاب، الصلاة في المساجد، اتباع التعاليم، لا يعني كل ذلك حرباً ثقافية. يعني فقط ممارسة الإيمان أو شيئاً منه.
يريدون حرباً غير متناظرة بينهم وبين الغرب. أعلنها الغرب حرباً وهم كذلك. لكنها أيضاً حرب غير متكافئة بالقوى البشرية والأدوات المادية. هي حرب انتحارية. وهم على استعداد لذلك؛ أو بعضهم على الأقل، يظنون انهم يطبقون حرب الغوريللا «أضرب وامش». هذه تصح في الأرض المحتلة لا في أرض أهل الاحتلال، أرض الغرب الذي يمتلك قدرات تقنية لا متناهية للقبض عليهم.
في التاريخ العربي الإسلامي خرجت فرق بأفكار، مشابهة من الخوارج على القرامطة إلى الوهابية إلى القاعدة وغير ذلك. وكانت جميع هذه الفرق وبالاً على الإسلام والمسلمين، لأن هؤلاء يدفعون الثمن.
ربما استفادت «داعش» من أن القوى الإقليمية والدولية لا تريد إزالتهم لسبب او لآخر. لا الأكراد ولا إيران يريان مصلحة في استثارة السنّة. والنظام السوري يرى فيهم صورة يقدمها للغرب، صورة تساهم في تلميع نظامه. والغرب كله يريد ضرب المعارضة السورية لا ضرب داعش. لكن المجتمع الإسلامي السني لا يريدهم. وقد ذهب من هؤلاء ضحايا على يد داعش، يومياً، أكثر بكثير مما حدث في باريس.
وأما الزبد فيذهب جفاءً، ولا يمكث إلا ما يفيد الأرض. الطريق السليم هو الانخراط في العالم، الأخذ بثقافة العالم، تطبيق تكنولوجيا التقدم على الإنتاج الاقتصادي، بناء مجتمعات متماسكة قادرة على البقاء بالعمل والإنتاج والسعي والكسب. وكل ذلك غير ممكن من دون الأخذ بالأنوار وأفكار الحداثة. يحاربون الحداثة في مجتمعهم، وكان مجتمعنا على مر العصور الماضية قد آخذ بتلابيب الحداثة تدريجياً من إصلاحات محمد علي إلى الإصلاحات العثمانية إلى الأفغاني ومحمد عبده، وقبلهما رفاعة الطهطاوي، وغيرهم. كان مجتمعنا يتقدم وينتكس، لكنه كان قادراً على النهوض في كل مرحلة مهما بلغ الإحباط. وكانت ثورة 2011 العربية دليلاً على ذلك. هؤلاء يرفضون الثورة جملة وتفصيلاً. يوافقهم على ذلك بعض المثقفين العرب لأسباب أخرى: ليست ثورة بما فيه الكفاية!
السؤال المهم هو إلى أي مدى يقبض هؤلاء على زمام المجتمع. ليس من يدَّعي ان الجواب موجود. لكنهم يظنون ذلك، لا بناءً على دراسات سوسيولوجية بل باعتمادهم على ان ذلك ما اعطاهم الله إياه. هم لا يرون المجتمع، يرون فقط آراءهم حول المجتمع.
تتواتر المواجهة من حيز إلى آخر. كانت ثورة 2011 بين الشعوب العربية وأنظمتها. الحرب العالمية الراهنة هي بين داعش وأخواتها من ناحية وبين الغرب من ناحية أخرى. حرب تُستخدم فيها التكنولوجيا المتقدمة. لكن هؤلاء لديهم ثقافة مختلفة وأولئك لديهم ثقافة حديثة متقدمة. هؤلاء لديهم مجتمعات منتجة وهؤلاء لديهم مجتمعات مستهلكة وحسب. هل يمكن البناء في المواجهة على مجتمع ديدنه الاستهلاك المحض، استهلاك من دون إنتاج؟
دمروا الدين التقليدي، في الحقيقة دمروا المجتمع. وهم يواجهون الغرب بأدوات ضعيفة. الثمن ستدفعه شعوبنا. ما سيدفعه الغرب قليل، هو على الأرجح مزيد من المراقبة وبعض العنصرية ضد أبناء بلادنا.
برغم ادِّعاءات داعش، وهولاند، هناك حرب حقيقية في بلادنا، وملاحقة مجرمين في الغرب. الحرب غير متناظرة ولكنها أيضاً غير متكافئة. سئمت شعوبنا الحروب غير المتكافئة.
إحدى مهامنا ان نفهم، ولا نفهم إلا ان داعش وأخواتها افرغت الدين التقليدي من محتواه ومن تاريخيته لتعلن حرباً ليست كفؤاً لها. وهذه تعتمد على رؤية مريضة للعالم.
عندما تتحول السنّة إلى مذهب، وهذا ما كان مستحيلاً في السابق، فإن النتائج تكون وخيمة على مجتمعنا. هذا هو الحصار من الداخل. الحصار الخارجي نعرفه. نحاصر أنفسنا من الداخل والخارج.