إحدى خصال رجال الدين في لبنان، أنهم يكثرون الكلام في السياسة، وحاضرون في الاصطفافات المعلنة، ويؤدون أدوارهم فيها، بلا مواربة. فمواقفهم معروفة ولا تشذ إلا نادراً، عن مسارات مذاهبهم في السياسة الداخلية والانخراطات الإقليمية.
أما وقد نطقت الفتنة كفرها على امتداد القارة العربية، وأما وقد تظهرت الدماء ما بين السنة والشيعة في أفدح المعارك، وأما التخوف من انتقالها إلى لبنان، قلباً وأطرافاً، فقد بات واجباً أن تلتقي القيادات الروحية الإسلامية، لتتحمل مسؤولياتها وتقوم بما يمليه عليها إسلامها السمح، لوأد الفتنة، ولمنعها من التسلل إلى الأرض بعدما تسلّلت واستطابت الإقامة في النفوس، حيث مكمن الخطر الأكيد.
كان متوقعاً، بتفاؤل هزيل، أن تأتي نتيجة القمة الروحية على مستوى التحدي. لم تحصل المعجزة ولا ظهرت الآية. نص البيان، كلام تالف. يكرر النص كلاماً سياسياً مكروراً مرات عديدة، يتردد على كل فم من أفواه السياسيين التوفيقية. كلام البيان أقل من عادي، ولا يشبه الواقع الذي تتردى فيه الجماعات الإسلامية وحكوماتها وأحزابها وقواها العسكرية.
بدا البيان وكأنه يفضل «الود المحتقن» بين المسلمين السنة والشيعة، على معالجة انفجار الأحقاد والسفك المتبادل الذي يستعيد مخزون القتل والدم من تاريخ إسلامي، جذراه، «قميص عثمان» و«كربلاء الحسين»…
البيان لا يشير إلى نية أو توجه في تحمل مسؤولية ما تراكم من أحقاد، شارك الجميع في إشعال نارها وبث سمومها. العلة ليست في السياسات بل في «التبشير» و«الوعظ» المفرطين جداً، وفي تجنيد المؤمنين وتزويدهم بالذخيرة الضرورية للانقضاض على «الأعداء»، أبناء الملة المخالفة.
إن منطق التكفير مؤسس في مناطق التفكير لدى الملل المتنازعة. نزلت الأطراف كلها، بعدتها الفقهية، إلى ميادين السياسة وجبهات القتال. لم تعد كامنة، بل معلنة. الساحات العربية المفتوحة جراحها على آلام غير مسبوقة، هي مرمى سيوف وخناجر الإسلاميين. القسمة بلغت حدود التقسيم. الديموغرافيا تشي بأننا ذاهبون إلى طلاق سني ـ شيعي. المعازل اللبنانية، وليد شرعي للتنابذ المذهبي. عرسال نموذج: هذه تخص المسلمين السنة. طرابلس نموذج: «قلعة المسلمين» (عاصمة السنة). بعلبك ـ الهرمل، حصة العشائر والعائلات الشيعية.
لبنان ينفجر أحقاداً، فماذا قالت القمة الروحية عن ذلك؟
المشكلة في طبيعة اللقاء. المأساة في إخفاء الحقائق، وتداول المعسول من الكلام، وكتابة المناسب من النصوص. النفوس في مكان آخر. النصوص لا تمت إلى النفوس، هي طقس من الطقوس، حيث لا يوضع إصبع على جرح.
حدث ذات لقاء، ان اجتمع علماء دين سنة وشيعة للتداول في شؤون إسلامية عامة. كان ذلك قبل اندلاع «الربيع العربي» المغدور. الحوار، أرتدى قفازات اللياقة. الكلام ود وحب، وكأن لا شيء بين الطرفين. وقف سيد شيخ معمم وقال للجمع: هاتوا ما في صدوركم، هاتوا ما في قلوبكم. ما تقولونه لا يمت إلى الحقيقة. نحن وأنتم، نتكاذب على الطريقة اللبنانية. من جهتنا، إننا نقول فيكم في تجمعاتنا النقية مذهبياً ما لا يعجبكم. نتناولكم ونتهمكم ونسيء إليكم ونشنع على رموزكم نتربى ونربي على الحقد والكراهية والتمايز. وانبرى شيخ آخر معمم وقال: صدقت. وهذا ما نفعله نحن إزاءكم، من تشنيع واتهام وتكفير.
اين كانت «القمة الروحية» التي التأمت في زمن السفك المتبادل وفقدان الحاجة إلى العقل، والانصراف عن الإيمان الذي يتأسس على الحب والحق؟ لماذا تغيبت عن تحمل المسؤولية، ونصت على توجه صادق وقرار حازم، يقضي بوضع خطة تنقي دور العبادة وكتب الدعوة وخطب الخطباء في المساجد ودروس الدين في المدارس، من لوثة التكفير، من استعادة التاريخ، من المظلومية الخاصة، (وهي مظلومية متبادلة) من تكرار ألف وخمسمئة عام من الدم.
هنا لب المشكلة. ماذا يتعلم السني عن «الروافض»؟ ماذا يدرس الشيعي عن الصحابة؟ وألف ماذا وماذا تقود كلها إلى تذخير النفوس، بأسلحة الفتنة؟
فرغ البيان من تحمل المسؤولية. اكتفى بما لا يكلفه عناء التفرغ إلى آخر المشكلة. صورة الإجماع على الكلام المهندس الذي لا يؤذي أحداً، تفضحها وجهة القيادات بعد اللقاء. لا صوت يدين «النصرة» التي يقاتلها «حزب الله». لا صوت ينتقد السعودية في حربها على اليمن. لا صوت يوجه اتهامات لارتكاب النظام في سوريا… لقد عاد كل إلى معسكره. أدى واجبه، نصاً وصورة وفخامة، ثم انفضَّ الجمع كما انفضت الأمة عن نفسها وعن قضاياها.
يشبه اللبنانيون اليوم، العراقيين في العراق. مع «الحشد الشعبي» وضده. مع «داعش وضدها»، مع النظام وضده، مع إيران ومع السعودية وضدهما. يشبه اللبنانيون اليوم أهل اليمن. يشبهون شعوب سوريا المتمذهبة.
يشبهون أهل البحرين. لبنان السني الشيعي، منتشر في القارة المقتولة. لا يُتبيّن الحق من الباطل.
لا يشبه اللبنانيون سواهم بعد في ممارسة العنف. حقد بلا عنف مادي عام. ولكن، ماذا لو أفلت الأمر في الجوار؟ ماذا لو تغيّرت خرائط القتال؟ ماذا لو؟
لا جواب، غير جواب التشبه التام بخنادق المنطقة. عندها، نفقد الحاجة إلى البيان والكلام. ويستعاض عنها، بـ«السيف أصدق إنباءً من الكتب».