يعود 13 نيسان، للمرّة الـ41، وكأنّ شيئاً لم يحصل. ويبدو اللبنانيون خليطاً من الشعوب المريضة بالوهم، أو المثقوبة الذاكرة. وسيأتي اليوم الذي يفرض استحقاقه على الجميع: لبنان يعيش أو يموت؟
أكثر فأكثر، يتّضح في أيّ سياق اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975. والأرجح أنّها كانت واحدة من العلامات الأولى لسلسلة تحوُّلات مترابطة سببياً غيَّرت الشرق الأوسط والعالم:
– الثورة الخمينية في إيران 1979، التي كانت أولى بذور «اليقظة الشيعية» وأكبر انتصار للحالة الشيعية في تاريخها. وقد حاول الاتحاد السوفياتي إقامة سورٍ يَقيه دخول السلفية الإسلامية إلى جمهورياته الآسيوية، فاحتلّ أفغانستان. وجرى الردُّ عليه لاحقاً بخلق حالة أسامة بن لادن. وتلقّت الحالتان الإسلاميتان، الشيعية والسنّية، معاً، دعماً من منابع واحدة!
– إستتبعت اليقظة المذهبية يقظة قومية أسقطت الاتحاد السوفياتي وفكّكَت المنظومة الشيوعية، بدءاً من مطلع التسعينات، وأطاحت أنظمة وكيانات، في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، كانت تحظى بغطاء حِلف وارسو.
– هذا السقوط استتبع بروز عنوان «الإرهاب الإسلامي» بديلاً من «الإرهاب اليساري» الذي ساد خلال الحرب الباردة. وجاء حدث 11 أيلول 2001 ليطلقَ المسار الإرهابي الذي باتت «داعش» ورديفاتها تعبِّر عنه اليوم.
– هذه التداعيات مهَّدت لانهيار الأنظمة العربية في الحراك المسمّى «الربيع العربي»، في 2011. ولأنّ الكيانات القائمة في العالم العربي مصطنَعة إجمالاً، على قياس الأنظمة، فإنّ سقوط الأنظمة أسقط الكيانات أيضاً.
في غضون ذلك، تمكّنَت إسرائيل من إبرام سلام مع مصر في كمب ديفيد (1979) ثمّ مع الفلسطينيين في أوسلو (1993) ومع الأردن في وادي عربة (1994). وبعد اندلاع حروب «الربيع العربي»، باتت أهداف إسرائيل واضحة: يهودية الدولة، القضاء على حقّ الفلسطينيين في العودة والتصدّي لفكرة قيام دولتين. وهناك مخاوف من تنفيذ «ترانسفير» من غرب الأردن إلى شرقه.
إذاً، في العودة إلى بدايات التحوُّل الكبرى، يتبيَّن أنّ الـ 100 عام التي مضَت على رسم خريطة الشرق الأوسط، بعد الحرب العالمية الأولى، مقسمومة إلى نصفين:
– الأعوام الخمسون الأولى التي شهدت ولادة إسرائيل والحروب الأولى المؤسِّسة لحدودها الجغرافية الحالية: حرب 1948، العدوان الثلاثي 1956، حرب حزيران 1967، وحرب 1973.
– الأعوام الخمسون التالية التي يجري فيها رسم حدود النفوذ الإسرائيلي، أي السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والفكرية. وهذه المرحلة، بالنسبة إلى إسرائيل، مكمِّلة للمرحلة التأسيسية.
من هنا، تبدو ظاهرة «الربيع العربي» والانهيارات الجارية في كيانات الشرق الأوسط ثمرةَ تخطيط إسرائيلي. وبات جليّاً أنّ سوريا والعراق لن يعودا إلى ما كانا عليه. ولا أحد يضمن عدم حصول انهيارات في الخليج العربي لاحقاً. وهناك دلائل قوية إلى تغييرات محتملة في الأردن نتيجة «الترانسفير» الفلسطيني.
ما هو موقع لبنان في لائحة الأهداف الإسرائيلية؟ وهل كيانُه مستهدَف، كما سائر الكيانات الشرق أوسطية؟ لطالما ساد اقتناع بأنّ إسرائيل تريد القضاءَ على النموذج اللبناني. فهو يشكِّل نقيضاً لها، لأنّه يثْبِت نظرية العيش الآمن في مجتمع متنوّع دينياً. كما يشكِّل منافِساً لها في الاقتصاد الليبرالي والانفتاح على الغرب.
تطمح إسرائيل إلى احتكار وظيفة المعبر بين العرب والغرب، بعد إنهاء الدور التاريخي الذي يضطلع به المسيحيون اللبنانيون في هذا المجال. ولكن،
فيما المسيحيون جزءٌ أصيل من مجتمعهم، تعاني إسرائيل صعوباتٍ حقيقية في التطبيع.
لذلك، هناك مخاوف من أن يذهب لبنان في جريرة الكيانات المرشّحة للسقوط على مذبح التسويات الإقليمية. وإذا حصَل ذلك، فسيكون مؤلماً لبلدٍ دفعَ 150 ألف شهيد و300 ألف جريح و17 ألف مفقود ونحو مليون مهاجر من أصل أربعة ملايين!
ولكن، المؤكّد أنّ الذين تكبّدوا هذه الخسائر لم يتلقّنوا الدروس. ولذلك، بعد 41 عاماً من اندلاع الحرب الأهلية، يواجه «هذا اللبنان» تحدّيات البقاء في ظلّ المخاض الكبير في الشرق الأوسط. وأبرز التحدّيات هو انخراط قادة الشيعة والسنّة اللبنانيين في النزاع الإقليمي وكأنّه معركتهم الخاصة.
في 1975، كانت طبيعة النزاع في لبنان طائفية، وهذه النقطة لها وجهٌ إيجابي، لأنّ أحد قطبَي النزاع، أي المسيحيين، ليسَت له امتدادات طائفية إقليمياً، وهذا يضمن عدمَ وصول البلد إلى الانفجار كيانياً بتأثير الضغوط الإقليمية.
وأمّا اليوم، فالنزاع في لبنان مذهبيّ، وهو جزء أصيل من النزاع المذهبي الإقليمي. وينخرط الطرفان، الشيعة والسُنّة، في المعركة الدائرة في المنطقة، وينقلان تداعياتها إلى الداخل اللبناني، معرِّضين البلدَ للخطر.
وفي العام 1975، كانت الكيانات الإقليمية متماسكة تحت قبضات أنظمة حديدية يَحمي كلّاً منها أحدُ القطبين الدوليين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. لذلك أيضاً، لم تكن المخاوف على لبنان كبيرة كما هي اليوم.
وصونُ لبنان كيانياً لم يعُد يستدعي تفاهماً بين المسيحيين والمسلمين، كما كان الأمر عام 1975، بل بين الشيعة والسنّة الذين عليهم أن يتفاهموا على مسألتين:
1- تحييد لبنان عن النزاع المذهبي، أي الانسحاب من الحروب الدائرة في المنطقة، مع ما يقتضيه ذلك من تعاطٍ مع ملف النازحين السوريين والفلسطينيين، من منطلقات وطنية وإنسانية لا مذهبية.
2- الإقرار بأنّ الصيغة اللبنانية الحاليّة باتت عاجزة عن مواجهة التحوُّلات الكبرى. والجميع يدرك ذلك، لكنّ أحداً لا يريد الاعتراف به، إمّا لمراهنةٍ على أنّ هناك مزيداً من المكاسب سيحقّقها (السنّة والشيعة)، وإمّا للخوف من البديل (المسيحيون والدروز). وهذا التجاهل هو الذي يقود إلى المأزق.
وسيكون مناسباً استباق أيّ صيغٍ تقسيمية في سوريا والعراق بصيغةٍ عادلةٍ تمنع التقسيم، ويتمّ التوافق عليها بذهنية الرغبة في منع انهيار لبنان، لا ذهنية التذاكي لتحصيل أكبر حجم من المكاسب. وهنا مسؤولية قادة السنّة والشيعة، لأنّ طموحات المسيحيين والدروز ليست كبيرة.
ومناسبٌ أيضاً تحجيم المعايير الطائفية لمصلحة دولة مدنية، واعتماد أيّ نوع من أنواع اللامركزية الموسّعة. فالنظام اللبناني يعتمد اليوم فدرالية، ولكن مُشوَّهة، وسيكون مفيداً للاستقرار استبدالُها بنظام فدرالي حقيقي.
والمثير أنّ السُنَّة ميّالون إلى الفدرالية في العراق، حيث الشيعة غالبية. وأمّا في سوريا، فالعلويون مع أيّ خيار فدرالي، أو التقسيم، إذا خسروا الحرب. وأمّا الأكراد في البلدين فإنّهم أكثر من فدراليين!
وأمّا في لبنان، فيريد قادة السُنَّة والشيعة دولةً مركزية، لأنّ كلّاً من الطرفين يأمل في أن تكون بكاملها تحت سيطرته: الشيعة إذا انتصَر الرئيس بشّار الأسد والسُنّة إذا هُزِم، عِلماً أنّ سوريا ليست ذاهبة في أيّ مِن الاتجاهين، بل هي في صَدد تكريس مناطق ثابتة للنفوذ.
في أيّ حال، سيكون على قادة السُنّة والشيعة، لا على المسيحيين والدروز، أن يقرّروا: هل يريدون للبنان أن يعيش أو أن يموت؟ فالقرار بات في أيديهم وحدهم. ولكن، لا يمكن استمرار لبنان في تعداد «ذكريات» 13 نيسان، عاماً تلوَ آخر، على هذا المنوال، من دون الوقوع في 13 نيسان جديدة!
وينطبق اليوم على لبنان، الواقف بين الحياة والموت، ما قاله خليل حاوي، المنتحِر على أبواب اجتياح إسرائيل في 6 حزيران 1982: «ليت هذا الباردَ المشلولَ يحيا أو يموتْ!»