أيّ خيار ستسلكه القوى اللبنانية في مقاربتها للتحديات المصيرية الآتية على جناح الأحداث المتسارعة، وأي مسار ستمشي به المكوّنات السياسية والدينية والثقافية مع عودة العناوين القديمة الجديدة إلى الواجهة، بعد أن أصبح لبنان تحت السلطة السياسية لإيران وسيطرتها على المؤسسات الدستورية وخوضها تجربة الحكم المنفرد المتلبّس لبوس التحالفات المتنوعة إسلامياً ومسيحياً؟
محطات لا يجب تجاهلها
لا يجهل أحد من المتحكمين بزمام القرار تاريخ لبنان المعاصر المليء بالصراعات الناجمة عن الرهانات الخارجية، واعتقاد كلّ طائفة أو حزب أنّه يستطيع السيطرة على البلد من خلال الدعم الخارجي، فخاص المسيحيون تجربتي بشير الجميل وميشال عون، مع الفارق في الشخصيتين وفي المسلكين، لأن بشير بعد وصوله إلى الرئاسة أعلن أنّه لا يمكن الحكم إلاّ بالشراكة الوطنية وعلى الأرجح كان هذا أحد أهم أسباب اغتياله، بينما وصل عون على أساس حلف الأقليات وتظهير مقدار هائل من الشحن الطائفي والمذهبي لم يسبق له مثيل بهذا الوضوح الحدة.
كانت تجربة الحركة الوطنية مثالاً آخر اعتبره البعض مراهنة سنية على الفلسطينيين لفرض الخيارات الكبرى، وهي انتهت بدورها ولم تعد تشكل نموذجاً مغرياً لا على المستوى السني ولا على المستوى الوطني.
«حزب الله» النموذج الواهم
اليوم يخوض «حزب الله» حرباً هي الأصعب والأعنف والأكثر جذرية في السعي للتأثير على طبيعة التركيبة العميقة للكيان اللبناني، أخطر ما فيها أنّه اتخذ خياراً مغلقاً بربط مصيره ومصير لبنان بنظام ولاية الفقيه، وهذا ليس جديداً، لكنه يزداد تفاقماً، وإشكاليته تأسيسية لأنّ نشأته وتعاظم قوته جاء أولاً بعد تصفية جميع القوى الأخرى تمهيداً لتسليمه الزمام، ثم تدفق الدعم الإيرني، بينما كانت الدول الشقيقة للبنان، وخاصة السعودية ودول الخليج، تدعم الدولة ولا تعتمد دعم الجماعات، والأرجح أن هذه كانت سياسة قاصرة عن فهم التحولات وتوقعها، وأسهمت في سقوط التوازنات واستضعاف التيارات السيادية والمؤمنة بالدولة والكيان، لأنّها ربما لم تكن تعي أبعاد المشروع الإيراني وآليات عمله وأهدافه النهائية، مما كان يستدعي انتباهاً لكيفية نموّه وكيفية التصدي له عبر سياسات مبكرة لم تكن موجودة بالشكل الكافي كما يلزم.
رسم الخرائط: حقيقة الغياب والحضور
وصلنا الآن إلى مرحلة التصفيات في إعادة رسم الخرائط وهذا يدفع جميع القوى إلى البحث عن ملاذات آمنة خارج الحدود بعد أن أصبح هيكل الدولة منهاراً ولم يعد يقوى على الفعل السياسي والدستوري والاستراتيجي، مما يجعل «حزب الله» يتمادى في تظهير مفاعيل انتمائه للمشروع الإيراني، بينما يبحث أهل السنة عن سقفٍ يُظلّهم، بعد أن خرجت السعودية من لبنان، في الشكل على الأقل، وباتت علاقتها بالقوى السنية ملبدة بالالتباس والغموض، رغم أنّ معالم سياستها معروفة، تتصل بالدولة وكيفية قيامها، وبرفض الهيمنة الإيرانية عليها.
اتجهت فئة من أهل السنة إلى تركيا، باعتبارها الملاذ الأخير لهم، متأثرين بتجربة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ومسكونين بهواجس الحماية وهم يرون كلّ هذه الدماء في محيطهم، وكلّ هذا التخاذل والانكفاء في واقعهم اللبناني. وفي نسيج هذه الفئة تفرعت مجموعات، منها فضّل الميل الاقتصادي والإنمائي، ومنها من أوغل في الانتماء الفكري، وآخرون دأبوا على اعتبار الرئيس أردوغان الخليفة المنتظر، رغم أنّه لم يعلن يوماً أنّه بصدد التوجه نحو الخلافة أو تغيير النظام الجمهوري في تركيا.
الغاية من هذه المقاربة، الإشارة إلى أنّه من الطبيعي في بلد مثل لبنان أن يميل الناس نحن هذه الدولة أو تلك، لأنّ النظام السياسي الوطني لم يترسخ حتى الساعة، وهناك من يعتقد أنّه بتمثـّل نموذج «حزب الله» بالارتباط الكامل والعضوي بتركيا أو غيرها، وبإغلاقه خياراته السياسية والحيوية على مقصد واحد، يكون قد ضمن النجاة في عواصف الإقليم الهائجة.
حقائق ثابتة في العلاقات الدولية: المصالح أولاً
لكنّ هؤلاء تفوتهم مسائل أساسية لا بدّ من التذكير بها، وأهمها:
أنّ من أعظم أخطاء القوى أو السياسيين اعتماد الخيارات المغلقة، وإقفال الأبواب الخلفية وقطع قنوات الاتصال مع الآخرين، فهذا يصيب مواقع القرار بالتحجّر ويوقع من يتبوّأ موقع المسؤولية في أخطاء فادحة.
أنّ من الخطأ الجسيم في السياسة أيضاً الاعتقاد بنهائية العدو وثبات الأصدقاء والحلفاء، ومن يشاهد التقلبات الحاصلة في القوى والدول، يعرف أنّه لا يمكن الركون إلى قاعدة ثابتة في التحالفات.
ومن المفيد هنا التطرّق إلى الدور التركي والسعودي في لبنان وذهاب بعض السالكين فيهما دروب الصدام العنيف، إعلامياً حتى الآن، واستخدام أدوات مواجهة حادة تعود إلى أزمنة غابرة يجري استحضارها بين فئتين من المؤمنين.
هل من المفيد لأهل السنة الانزلاق إلى الولاء الأعمى لأيّ دولة كانت، وهل من المناسب التصادم داخل الصف السني، وكيف يمكن الوصول إلى صيغة تستفيد من تجارب الآخرين وكيف أنّ ما نالوه من عناصر القوة جعلهم أسرى داعميهم، بحيث أنهم حتى لو أرادوا اتخاذ قرار يرونه مناسباً على المستوى الوطني، ولكنّ مرجعيتهم ترى غير ذلك، فهم عاجزون عن فعل المناسب وطنياً.
من القواعد الهامة التي يجب الوقوف عندها أنّه يجب دراسة حجم القوى الفعلية، بعيداً عن المظاهر الآنية لانعكاس سياسات الدول، فانكفاء دولة مثل السعودية، لا يعني أنّها لا تملك عناصر القوة في لبنان، وتقدّم تركيا لا يعني أنّها قادرة على الحسم وقلب الموازين، فالتغيير يحتاج معادلات أعمق من تلك التي يعكسها هذا المظهر أو ذاك من مظاهر النفوذ أو الانكفاء، خاصة إذا كان الانكفاء إرادياً ويهدف إلى تحقيق تداعيات سياسية واستراتيجية تعتبر من الأهداف الأساسية لها.
أمّا المسألة الأهم والأخطر، فإنها تتعلق بعدم الركون والاعتقاد باستمرارية حالة الصراع والخصومة، بل إن الأدعى في حالة تركيا والسعودية اعتماد لهجة الابتعاد عن الصراع والبحث عن فرص تلاقي المصالح والمنطلقات السياسية، خاصة أن الدولتين هما ركيزتان في العالم السني، والصراع بينهما لا يخدم سوى الأعداء المتربصين بالمسلمين، والساعين لهدم ركائز الاستقرار الاجتماعي.
من المفاهيم الغائبة عن مناصري الدول ببعدها العقائدي أنّ هذه الدول تضع مصالحها القومية أولاً قبل أيّ اعتبار لمصالح اللبنانيين، وإذا تضاربت مصالحنا مع مصالحها فهي تختار بشكل تلقائي مصالحها حتى لو كانت النتائج خراباً علينا، وهذه طبيعة سلوك الدول، وليست إدانة ولا ترويجاً لهذه الجهة أو تلك.
هل من فرصة للتوازن؟
أخيراً، هل من مصلحة السنة في لبنان محاولة تكرار تجربة «حزب الله»، وأيّ مصير سيكون أمامنا في حال توسع نطاق مثل هذا التفكير، وهل هناك استبعاد لأنّ تتلاقي إيران وتركيا في مصالحهما ضد السعودية فتتقاسمان النفوذ وتحمي كلٌ منهما مناطق السيطرة التي تتوزعانها؟ وفي هذه الحالة أين يصبح الجانب الذي يتحمّس له مناصرو الدور التركي في لبنان، من شعارات المواجهة مع إيران وحزبها؟
كلّ هذه الأسئلة ليست سوى محاولات تحفيز للتهدئة الفكرية والسياسية ودفع النخب السنية خصوصاً، واللبنانية عموماً إلى التوازن في تفكيرها والاعتبار من التجارب والوقوف عند المحطات التي شكلت تاريخنا الوسيط والمعاصر، حتى لا تتكرّر أخطاء قرأنا وشاهدنا من سبقونا يقترفونها ويغرقون فيها فيصبح مصير الوطن على كفّ عفاريت المغامرات والطموحات وحالات الغضب المنغمسة في أوحال العجز والتائقة إلى خلاص لا أحد يعرف مسالكه المستقيمة والواضحة.