فشل المجموعات الجديدة في استقطاب الشباب الواقع تحت درجات القهر
تزاحمت الأحداث الأسبوع الماضي وانفجرت قنابل أمنية وسياسية كثيرة، وشهد لبنان المزيد من السباق بين أشكال الانهيار المختلفة، الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وقفزت إلى الواجهة المواجهات التي خاضها الجيش وشعبة المعلومات ضد مجموعات مسلحة عبرت إحداها من الحدود السورية، واعتدت الأخرى على معسكر عرمان موقعة شهيدين في صفوف المؤسسة العسكرية، في سياق عمليات بدأت منذ حادثة كفتون وتدحرجت لتصل إلى الصدامات الأخيرة، لتتلاقى دروب الإرهاب على التراب اللبناني المثقل بالضحايا من كلّ اتجاه.
من المستفيد من تحريك الإرهاب؟
ومثل أي حركة في البلد، أخذت هذه الأحداث تفسيرات متناقضة، وحاول كلّ فريق أن يستثمرها لصالحه، ويبني عليها مواقف مستقبلية في مواجهة الأطراف الأخرى، من دون أن ننسى الأبعاد الخارجية لإعادة تظهير الإرهاب في لبنان وكيفية تأثيره على سياسات الدول الإقليمية والكبرى، وهذا ما يجعل مواجهات الشمال مؤشراً على مرحلة جديدة تسعى جهة معروفة لتحويلها إلى حدث مستمرّ لتتمكن من تسويق طروحاتها المذهبية على أنها حرب ضد الإرهاب، تستدعي الدعم والمساندة، وتجاوز الارتكابات بحق الدولة والمواطنين.
ظهر أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله بمظهر المستثمر الأول فيما يجري، ثمّ رمى إعلام الحزب بأحداث الشمال في ملعب رافضي سياساته والمتصدّين لاستيلائه على الدولة وإسقاط لبنان في حصار غير مسبوق، فاتهمهم بالعمل على تشجيع الإرهاب، ودفع بحلفائه المسيحيين إلى الصراخ السياسي المبتذل عشية جلسة مجلس النواب للتصويت على قانون العفو العام، والذي جرى تقديم صيغ ممسوخة منه، وغير صالحة للتطبيق، مما أخرج الأحزاب المسيحية من دائرة التفاهم عليه، وجعل تيار المستقبل يرفضه وحوّل الجلسة إلى «سيرك» خالٍ من المنطق، وأقرب إلى تبادل أنخاب الانتحار السياسي وتوجيه الطعنات في الظهر والصدر، والتباهي بإصدار قوانين مجوّفة تحت شعارات مكافحة الفساد.
من يقدر على اختراق الحدود؟
حملت وسائل إعلام اتهامات لتركيا بتحريك المجموعات الداعشية في الشمال، وأنها تقف تحديداً وراء مجموعة وادي خالد، وهذا الطرح ممكن نظرياً، ولكنه يصطدم بالواقع الميداني الذي يفيد بأنّ خطّ الحدود اللبنانية السورية، يقع بكامله تحت سيطرة النظام السوري و«حزب الله»، ويستحيل على أي مجموعة اختراقها إلاّ بتواطؤ من الجهات المسيطرة.
يبقى احتمال أن يكون ثمة تنسيق ما بين الأجهزة التركية والنظام السوري و«حزب الله»، وهذا ينفيه الطرفان، وإذا صحّ فإنه إدانة مضاعفة للممانعة، ولا يمكن الوصول إلى الحقيقة في هذا الاحتمال بالمتابعة الإعلامية، لأنّ تعقيدات العمل الأمني أبعد من قدرات الصحافيين على الوصول إلى وقائع حاسمة في ملفات معقّدة كهذه، وجلّ ما يمكننا فعله، هو استعراض الاحتمالات وتحليلها والاستنتاج في ضوء ذلك.
لا للعفو.. نعم للعدالة
وأمام تسعير اللهجة الرافضة للعفو العام، فإنه يجب الوقوف عند هذه المسألة للتذكير بجملة مسائل ضرورية تشكل مفتاحاً لفهم المسلك الواجب سلوكه، وهذه المقاربة موجهة بشكل خاص إلى الأحزاب والرأي العام المسيحي، الذي بات عرضة للابتزاز والتخيير بين القبول بالسلاح وبين شبح الإرهاب.
أوّل المقاربات: هي أنّ القانون هو قاعدة الانطلاق في المحاسبة والعقاب، ولا يمكن الاجتهاد فوق القانون، بسبب فائض الأحقاد أو الجموح السياسي لسحق شريحة بكاملها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. التأكيد على هذه المسألة نابع من خروج أصوات أخذت حظوة في الإعلام، تدعو فرض عقوبات خارج القانون، وإلى الاعتقالات الاستباقية وإلى جعل العقوبات بدون سقف زمني، وهؤلاء شكّلوا موجة دفعت ببعض النواب، مثل أعضاء تكتل المردة إلى التحوّل لما يشبه الندّابين في جنازة لا يعرفون صاحبها.
المقاربة الثانية: هي أنّه لا يمكن التأسيس للعدالة بناءً على إجراءات ظالمة. فإذا كان المطلوب محاربة التطرف، لا يمكن في الوقت نفسه ممارسة كلّ أشكال الظلم على المشتبه بهم، وتحويل كل من يقع في دائرة الشبهة إلى إرهابي، يجري توقيفه وإدخاله في عالم السجون، ودفعه إلى أقصى حالات النقمة، نتيجة التأخير في المحاكمات، أو التعذيب والعزل غير المبرّر، ثمّ وضع هؤلاء مع عتاة المسجونين بقضايا الإرهاب ليتحوّل سجن رومية إلى جامعة عليا في تخريج الناقمين المحترفين على المجتمع.
الإصلاحات الغائبة عن السجون
لا يمكن الحديث عن العدالة بدون تطبيق الإصلاحات في السجون، وهي تشمل:
المعالجات الشرعية والدينية والفكرية داخل السجون من قبل علماء وخبراء بإشراف دار الفتوى، لمواجهة حالات غسل الدماغ التي يتعرّض لها السجناء قبل وخلال مدة احتجازهم.
تفعيل التدريب المهني لتخفيف الضغوط التي يتعرض لها السجناء، وليخرجوا إلى المجتمع بسلاح المهنة بدل سلاح النقمة.
مع الأسف، لم تطبق الدولة بأجهزتها الأمنية والعدلية أيّ بندٍ إصلاحيّ في السجون، بل وصلنا إلى وضع يعلن فيه رئيس مجلس النواب أنّه يخشى أن يأتي يوم لا يتمكن فيه المسؤولون من تطبيب السجناء، وربما يأتي يوم يعجزون عن إطعامهم، وقد بدأ الطعام يشحّ وتناقص بشكلٍ متسارع.
ضرورات الإصلاح في السجون تبدو اليوم ترفاً لدى السلطة، لأنّ المركب بأكمله يغرق، فأيّ جدوى من إصلاح ثغرة في حائطه.. وهذا يدلّ على أنّنا أمام ديناصورات حاكمة متوحشة لا تنتمي إلى الناس ولا تعترف بأوجاعهم وآلالامهم، الناتجة عن دورة موت متواصلة: ظلم وتوحّش وإفقار، فنقمة واستدراج وانفجار!
البيئة السنية.. الطاردة للإرهاب
إذا طبقنا العدالة، فلن نحتاج إلى عفو عام يخرج من السجون ويحرِّر آلاف المجرمين والعملاء، مقابل ابتزاز أهل السنة ببضع مئات لم يدخل معظمهم دائرة الموت هذه إلاّ بعد أن خضع لسلسلة طويلة من الضغط والاستدراج والاستغلال الذي ربما يظن من يستفيدون منه أنّه يقويهم، لكنّ عليهم أن يقرأوا جيداً انحسار نسبة شباب السنة اللبنانيين في إطار المجموعات الجديدة التي جرى تصنيعها مؤخراً، فخلاصة المسألة أن البيئة السنية باتت اليوم بيئة طاردة للإرهاب ولن يمرّ عليها بعد الآن «أفلامٌ محروقة» وخطط مستهلكة.