Site icon IMLebanon

مفاوضاتٌ على رفوف السوبرماركت

 

 

الخطأ الأكبر هو الاعتقاد أنّ وفد صندوق النقد الدولي جاء متحمِّساً ليفاوض لبنان على المليارات الواردة في «خطة دياب»، ثم سيوافق على دفع 10 مليارات دولار بالتقسيط المريح، ضمن مهلة 5 سنوات. فمشكلة لبنان الحقيقية يعرفها الصندوق جيداً، وهي موجودة في مكان تتجاهله الخطة تماماً: الإصلاح. و»نَعامة الفساد» تُخبّئ رأسها في رمال الخطة الحكومية، لكنّ أحداً ليس مغشوشاً بألاعيبها القديمة ولا مستعدّاً لتغذية فسادها… بدولار واحد!

يقول مسؤول سابق: الجميع «يَحور ويَدور» ولا يقول الأمور صراحة. وأمّا الحقيقة فهي الآتية: القوى السياسية المُمسكة بالسلطة في لبنان لها مصلحة باستمرار الفساد لتستمرّ وتتغذى الزعامات بالمال وتحافظ على نفوذها. وهذا الفساد يوافق عليه «حزب الله» باعتباره رشوةً لهذه القوى. وبه يحافظ على ولائها له… وتالياً للمحور الإيراني.

 

في المقابل، صندوق النقد لن يَمدّ هذه التركيبة السياسية بأيّ من عناصر القوة لأنّ القرار الأبرز فيه يعود إلى الولايات المتحدة وحلفائها. فليس منطقياً أن توافق واشنطن على تمويل سلطةٍ تتمتع فيها إيران بالنفوذ، فيما الطرفان يخوضان معركة لا هوادة فيها، وفيما تتشدَّد الولايات المتحدة بالعقوبات على «حزب الله» وتهدِّد بتوسيعها لتشمل حلفاء له.

 

وأساساً، قامت تسوية 2016 على زواج مصالح موروث من المرحلة السورية، قبل 2005، ويقوم على الآتي: يُدارُ البلد في أمور الاقتصاد والتفاصيل السلطوية الصغيرة والمنافع بواسطة القوى السياسية التقليدية، لكنّ المسائل الاستراتيجية تبقى محصورة بـ»حزب الله»، بعدما كانت محصورة بالراعي السوري.

 

إذاً، وفق هذه الرؤية لا سواها، سيبدأ صندوق النقد مفاوضاته مع أركان سلطةٍ يعرفها جيداً، ويدرك أنّ ما تريده هو المال فقط لتستمرّ على قيد الحياة عاماً إضافياً أو اثنين أو أكثر. وهي ستُناور وتوحي بقبول شروط الإصلاح لتحصل على المال وتستمر في السيطرة على البلد ومقدراته.

 

في المقابل، هذه الطبقة تخاف الصندوق. كما أنّ «الحزب» يطلق هواجسه في العلن، خائفاً على فئة الفقراء من الفكر الرأسمالي الذي يتبنّاه الصندوق، لكنه في الواقع يخشى دخول الولايات عليه عن طريق المال والاقتصاد.

 

إذاً، «الفساد» هو الكلمة – المفتاح. لكنّ مفهوم «الفساد» مختلف في بيروت. فالصندوق صارم. ولكن، في بيروت، «الفساد» وجهة نظر كما كل شيء: الطاقم السياسي كله يُحاضر في العفاف، والحكومة تصدِّقه، و»حزب الله» لا يعتبر سيطرته على بعض المرافق جزءاً من مشهد الفساد.

 

وفي الواقع، في بيروت يريدون المال، لا أكثر، كي يستمروا. وهم «صَوَّروا» على الورق خطة مالية واقتصادية لا علاقة لها بالإصلاح، لعلّها ترضي صندوق النقد والمجتمع الدولي فيتحَنّن بالمليارات الموعودة. بل إنّ الخطة أصغر بكثير من أن تسمّى خطة، وصندوق النقد الدولي أكبر بكثير من أن يُفاوض عليها.

 

في كل ما جرى هناك إيجابية وحيدة، وهي أنّ الحكومة طلبت الدعم المالي من صندوق النقد، بعدما كانت تكابر وتصرُّ على المشورة. فهذا إشارة إلى أنّ الطاقم السياسي الذي يدير الحكومة قد «وقع» أخيراً- «نصف وَقْعَة» على الأقل- وصحيح أنّ الإصلاح ما زال أمراً صعب التحقيق جداً، لكنه، من دون الصندوق، كان مستحيلاً.

 

بالطبع، كان مثالياً استغناء لبنان عن أي جهة مانحة. ففي عالَم المساعدات لا شيء مجانياً. لكنّ الطاقم السياسي هرَب من الإصلاح لأنه خاف على مكتسبات غير مشروعة جَناها خلال عشرات السنين.

 

وحتى في العامين الأخيرين، تجاهلت تركيبة السلطة شروط الإصلاح، على رغم حاجتها الماسّة إلى أموال «سيدر»، وهي عملت ولا تزال على خنق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، خوفاً من هذا الإصلاح والوصول إلى يوم الحساب. ولذلك، كانت الاستعانة بالمانحين الدوليين خياراً اضطرارياً.

 

يبتسم المسؤول السابق ويقول: نصيحتي للإعلام اللبناني، هذه الفترة، أن يتفرَّغ للتوعية من مخاطر تفشّي «كورونا» مجدداً، كما فعل في أول الأزمة فكان له الفضل الأكبر في إنقاذ البلد، بدلاً من التلهّي في نقاشات تقنية حول خطة مالية لا قيمة لها، ولا هدف منها سوى التغطية والالتفاف على المشكلة الحقيقية.

 

يضيف: ليست «لازار» هي التي أعدَّت هذه الخطة. ولا أحد يصدِّق أنّ خبراء أي مؤسسة ذات وزن يوافقون على إصدار خطة بهذه الدرجة من الركاكة وتجاهل أبسط مقوّمات الإصلاح.

 

إنها في الواقع صنيعة عدد قليل من الأشخاص المنتمين إلى المنظومة المالية الإدارية والحكومية. وبمعزل عن مهاراتهم المهنية ونياتهم، فقد أنجزوا الخطة بناء على سقوف مُسبقة وضعتها القوى السياسية المعنية، وممنوع تجاوزها وفضح مواقع الفساد.

 

لذلك، سيكون هناك «كباش» عنيف بين الطاقم السلطوي المتعطّش للدولار وصندوق النقد الذي سيتشدَّد في «تنقيط» أي دولار، وربما سيمارس الابتزاز السياسي، كما يعتقد البعض.

 

ويقول أحد الخبراء: خلال هذه المفاوضات العسيرة، سيدفع البلد ثمن «الكباش» مزيداً من الانهيارات، وستنضج المخارج على نار الجوع وصراخ الجائعين الذين سيلهبهم الدولار الصاعد بلا ضوابط. ستكون عملياً مفاوضات على رفوف السوبرماركت، وعَضّ أصابع. ومعروف من سيقول «آخ».