لن تفيد البهلوانيات اللبنانية، التي لا تدوم مفاعيلها سوى ساعات، في حجب طبيعة الأزمة إذا كان أصحابها يتوهمون بأنها ستضيّع المسؤوليات السياسية عما بلغه التردي الحاصل في الوضع المالي والاقتصادي، المرشح لمزيد من التفاقم. وهي لن تغير في قناعة المجتمع الدولي بأن المطلوب أولاً وأخيراً حكومة وفق معيار واحد هو المبادرة الفرنسية الإصلاحية والتي هي نسخة عن الإجماع الدولي على المطلوب من لبنان.
إعاقة ولادة الحكومة باتت ابتزازاً لفرنسا والمجتمع الدولي، وتعيد تأكيد المؤكد بأن أصل مأزق البلد، سياسي قبل أن يكون مالياً واقتصادياً.
لا محاولات رئيس الجمهورية وفريقه ومعه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل استعادة موقعه المتهاوي بعد 17 تشرين، تارة عبر اتخاذ قرارات في المجلس الأعلى للدفاع وأخرى عبر توسيع صلاحيات حكومة تصريف الأعمال وثالثة عبر الحملة الإعلامية التي يشارك “حزب الله” الرئاسة فيها، لتحميل الرئيس المكلف سعد الحريري مسؤولية تأخير الحكومة، ستؤدي كلها إلى تغيير في الحقائق الدامغة بأن أصل أزمة البلد يكمن في الطبقة السياسية الحاكمة، وفي الإدارة الفاشلة والفئوية من قبل العهد لشؤون البلد. فهذه الإدارة القائمة على العصبية الطائفية، والانحياز إلى المحور الإيراني إقليمياً لإدامة الاستناد إلى القوة العسكرية في ممارسة السلطة، لم تكن نتيجتها إلا خلق صراع على المواقع في المؤسسات والمنافع التي استنزفت مالية البلد وصولاً لإفقاد الحكم أي هيبة أمام الدول وشعبه.
وهم استبدال قيام حكومة جديدة بالمجلس الأعلى للدفاع للإيحاء للبنانيين بأن الرئاسة تمارس صلاحياتها وتجترح الحلول لأزمتهم، ذهب بعيداً ليس فقط في الانتقاص من الدستور وصلاحيات مجلس الوزراء، بل من دور المجلس الأعلى للدفاع، الذي مبرر انعقاده اتخاذ إجراءات إزاء تهديد عسكري خارجي أو أمني داخلي، فإذا به يشتمل على طلب رئيس الجمهورية من وزير الأشغال “الاهتمام بأوضاع الطرق في ضوء السيول التي هطلت الاسبوع الماضي”، وتحريك ورش الوزارة، وفق بيان المجلس. هل من تقزيم أكثر من هذا الانحدار بدور مؤسسة تعنى بشؤون دفاعية، مما انطوى عليه افتعال قرارات، تعود فعلياً إلى رئيس دائرة في إحدى الوزارات وفي أحسن الأحوال للوزير المعني؟
ومع ذلك فإن جنرال المطر “هزم” بعد يومين “استراتيجيات” المجلس الأعلى للدفاع برئاسة الرئيس، فغرقت مداخل بيروت بالمياه ومعها مئات السيارات ومواطنون احتجزوا فيها…أما القرارات المتعلقة بمواجهة كورونا فتأتي على الدوام تكراراً لما تعلنه اللجنة الوزارية.
ومع أن بعض الوسط السياسي يرى في هذا التقصد المسرحي، شأن ممارسات أخرى، في إيكال وظائف مدنية لمجلس الدفاع، على أنه جنوح بالحكم إلى أحلام النظام الرئاسي التي يخترع بعض المستشارين اجتهادات قانونية لها، وهرطقة دستورية تسقط اتفاق الطائف بالممارسة، عن سابق تصور وتصميم، فإن مصدر هذا المنحى وجود رئيس لحكومة تصريف الأعمال، مستعد للتسليم بما يبقيه في الصورة، حتى لو كانت النتيجة بهدلة الرئاسة الثالثة. والمطلوب أن يكون الحريري مطواعاً مثله. ووهم القدرة على فرض انصياعه أخذ “التيار الحر” نحو القول في بيانه إن “التزام وحدة المعايير(مطالب التيار) هو حبل نجاة للرئيس المكلف”.
البهلوانيات قد تقنع من هم في غربة عن الواقع بأنهم بهذه الطريقة ينجحون في تعويم جبران باسيل بعد سقوطه، في وقت باتت المعارك التي يخوضها في قلب البيت قبل خصومه.