Site icon IMLebanon

«المصلحة العليا» من ميراج 1969 إلى عرسال 2014

منذ خطف العسكريين واجهت حكومة الرئيس تمام سلام اختباراً لا تحسد عليه

تواجه حكومة الرئيس تمام سلام اختباراً غير مسبوق في معالجتها ملف العسكريين الأسرى لدى تنظيم داعش وجبهة النصرة. لا يكتفي اختبارها بعدو خارجي فحسب، بل تجبه أعداءً داخليين، مرةً داخل صفوفها، وثانيةً في الشارع، وثالثةً عبر انخراط الإعلام في توجيه التفاوض المتعذر

في 30 أيلول 1969 نجحت الاستخبارات العسكرية (الشعبة الثانية) برئاسة المقدم غابي لحود في إحباط محاولة الاستخبارات السوفياتية تهريب طائرة ميراج لبنانية إلى باكو بغية الاطلاع على أسرار رادارها المتطور. كان الملازم أول محمود مطر قد أوحى إلى ضابطي استخبارات سوفياتيين هما فلاديمير فاسيلييف والكسندر خومياكوف بتعاونه معهما للفرار بالميراج لقاء مليوني دولار، وأعدّ معهما الخطة. بيد أنه سارع فور مفاتحته بالأمر إلى إخطار لحود، وأدار مع ثلاثة ضباط بارزين في الشعبة الثانية هم إدغار معلوف وعباس حمدان وسامي الخطيب كشف المحاولة بالجرم المشهود.

أطبق رجال الشعبة الثانية على مكان تسلم مطر الشيك واعتقلوا الديبلوماسيين السوفياتيين. في ساعات قليلة اندلعت ضجة امتدت تداعياتها من بيروت إلى القاهرة إلى موسكو عن استخبارات دولة صغيرة أحبطت خطة استخبارات دولة عظمى في الاستيلاء على إحدى طائراتها. لم يكن يملك الميراج في المنطقة سوى لبنان وإسرائيل.

انتهى الحدث بنجاح أمني للشعبة الثانية، قبل أن تتدخل السياسة لاستخدام الوقائع تلك في وظيفة سياسية مختلفة من جراء وقوع إطلاق نار إبان اعتقال ضابطي الاستخبارات السوفياتيين، فانقلبت اللعبة رأساً على عقب.

منتصف ليل اليوم الثالث، 2 تشرين الأول، اتصل السفير المصري إبراهيم صبري بالرائد سامي الخطيب وأبلغ إليه تلقيه لتوه من سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر رسالة عاجلة تضمنت انتقاداً قاسياً للبنان: الرئيس يسلم عليك وعلى الرئيس شهاب ويطلب إليك الاتصال بالرئيس شهاب لإيجاد حل لكل ما يجري في بيروت في موضوع الميراج الذي يتهم به الاتحاد السوفياتي. يعتقد الرئيس عبد الناصر أن الأمر يتعلق بالكرامة القومية للأمة العربية، ونضالنا يجب أن لا يترك تحت رحمة الأقلام المأجورة، والتجريح بالاتحاد السوفياتي غير مقبول وهو الذي يساعدنا في معركتنا القومية الكبرى. يتمنى الرئيس بإلحاح شديد وقف تداول الموضوع في وسائل الإعلام وتسويته إيجاباً بما يحفظ الصداقة مع الاتحاد السوفياتي المساند للقضية العربية، ولا يجوز الاستمرار في الحملات الإعلامية التي تضر بالمصلحة القومية إضراراً بالغاً.

ليلذاك اتصل الخطيب بلحود وأطلعه على الرسالة، فخابر رئيس الشعبة الثانية الرئيس شارل حلو وسلفه الرئيس فؤاد شهاب ورئيس الحكومة رشيد كرامي، وكلّف ضباط الشعبة الثانية من الأولى حتى الثانية فجراً الاتصال برؤساء تحرير الصحف لسحب أي خبر يتناول فضيحة الميراج،

بين مؤيد ومعارض للمقايضة، تختلف الحكومة على «المصلحة العليا للبلاد»

ولا سيما الوثائق التي كانت زودتها إياها الشعبة الثانية. أرفق الطلب ببيان تحذير أصدرته “السلطة العسكرية” إلى الصحف والمجلات والوكالات المحلية والأجنبية للأنباء من “نشر أي معلومات تتعلق بمحاولة خطف طائرة الميراج التابعة لسلاح الجو اللبناني أو التحقيق الجاري في هذه القضية تحت طائلة الملاحقة القضائية” حرصاً على سلامة التحقيق الذي تولاه القضاء العسكري وعلى “المصلحة العليا للبلاد”.

صباح 3 تشرين الأول لم يرد في الجرائد عن الصفقة سوى تحذير “السلطة العسكرية”.

عُزي تدخّل القضاء العسكري إلى دافعين: أولهما المصلحة العليا للبلاد كما ارتأتها السلطات وغضب الرئيس المصري حليف العهد، وثانيهما إفراط الصحف في تناول الموضوع غداة كشف الفضيحة في الأول من تشرين الأول بين مرحب بما قام به الجيش دفاعاً عن سلاحه الجوي ومندد بالتعرض لموسكو وإهانتها كصديقة العرب ضد إسرائيل. فإذا الجدل الداخلي والانقسام ـــ ولم يدم سوى ساعات ـــ يضع “المصلحة العليا للبلاد” أمام أكثر من تأويل متناقض حسمته للفور حكومة كرامي.

كانت تلك السابقة.

منذ خطف تنظيم داعش وجبهة النصرة عسكريين لبنانيين واتخذوهم أسرى، واجهت حكومة الرئيس تمام سلام اختباراً لا تحسد عليه لأسباب شتى أفضت إلى بلبلة ضربت موقفها:

1 ـ خلاف أفرقائها بين مؤيد للتفاوض ومعارض له. وبين مؤيد للمقايضة ومعارض لها. كلاهما مختلف عن الآخر وغير متلازمين. المقايضة جزء من التفاوض لا شرط له. بذلك تختلف الحكومة عليهما ترجمة لخلافها على تحديد “المصلحة العليا للبلاد” وتفسيرها.

2 ـ أظهر تعويل الخاطفين على عائلات العسكريين مراسهم في المناورة بغية إرغام الحكومة اللبنانية ليس على التفاوض فحسب، بل ما يتعدى المقايضة إلى مطالب تعيدهم إلى حيث طردهم منه الجيش، أي عرسال. تارة بتهديدهم بإعدام عسكريين، وطوراً باستخدام مشاعر العائلات عبر رسائل صوتية من العسكريين الأسرى تحرّض على الجيش والحكومة، أو بالإيعاز إليها بقطع الطرق. أضحت الحكومة طرفاً ثالثاً فاقداً المبادرة من جراء انقسامها، الأضعف بين اثنين أكثر مقدرة على التلاعب بمسار المشكلة من الجرود أو في الشارع.

3 ـ تسابق السياسيين في قوى 8 و14 آذار، الممثلين في الحكومة المربكة، على الإفصاح جهاراً عن آرائهم في وضع قواعد تفاوض يقتضي أن تكون سراً، فلا يفسح في المجال أمام الخصم إطلاعه سلفاً على كل ما يريده المفاوض اللبناني على الطاولة.

4 ـ تحوّل “المصلحة العليا للبلاد” مفهوماً مطاطاً لدى قوى 8 و14 آذار تبعاً لمواقفهما المسبقة من التنظيمين الإرهابيين كجزء لا يتجزأ من الانقسام الداخلي.