ماذا كنت فعلت لو أنني أدير بلداً نزل شعبه ليطالب بالعيش الكريم والعدالة الاجتماعية وبمحاربة الفساد الذي أصبح قاعدةً عامة وليس استثناء؟
لا شك أن اللبنانيين يكتشفون يوماً بعد يوم انفصام السلطة السياسية وبُعدها عن هموم شعبها وعدم تقبلها أو بالتالي انكارها للحالة الراهنة ولواقع أن ما قبل 17 تشرين ليس كما بعده.
فور بدء الانتفاضة بدأ المسؤولون باستنكار الفساد وتردي الخدمات وواقع المحسوبيات ونبذ العصبية الطائفية، مع أن كل هذه الادوات تعتبر بروتين الطبقة السياسية المغذّي ومن دون هذا الغذاء ستضعف هذه الطبقة يومياً حتى انتهائها.
لا أعرف إن كان يوجد في هذه الطبقة السياسية فعلاً من يفكر باصلاح جدي ليلاقي تطلعات جمهوره؟ لأن ثورة اليوم هي ثورة جماهير لبنانية قررت أن تكون شعباً للمرة الاولى منذ نشأة دولة لبنان الكبير.
ولكن في حال، وهو أمر شبه أكيد، أن الطبقة السياسية أرادت ترك قطار الاصلاح والتغيير يمرّ من دون أن تركبه، اعتقد أن الادارة اللبنانية كفيلة باصلاح نفسها وإصلاح الدولة بالتعاون مع السلطة الأولى التي تحكم باسم الشعب اللبناني وهي السلطة القضائية.
لو أردنا الاصلاح بامكاننا البدء من البارحة وليس اليوم لأنه لدينا قوانين صالحة من شأنها المساهمة في عملية الاصلاح نذكر أهمها الاثراء غير المشروع رقم 154 الصادر بتاريخ 27/11/1999 وقانون العقوبات اللبناني. وهناك ايضاً هيئات رقابية ألزمها القانون وأعطاها القدرة على الرقابة والمحاسبة ولكن طُحِنت هاتين القدرتين ما بين مطرقة السياسة وسندان الطائفية.
فالمرسوم الاشتراعي رقم 115 تاريخ 12/6/1959 انشأ التفتيش المركزي واناط به مراقبة الادارات والمؤسسات العامة والبلديات وتحسين أدائها ومراقبة اداء موظفيها لمنع اي مخالفة للقوانين والأنظمة المرعية الاجراء.
اما المرسوم الاشتراعي رقم 82 تاريخ 16/9/1983 فقد نظّم عمل ديوان المحاسبة وقد اناط بالديوان مهمة رقابية مسبقة على تنفيذ الموازنة واعطاه الحق بابداء الرأي بالامور المالية وايضاً سلطة قضائية يمارسها برقابته على الحسابات وعلى كل من يتولى إدارة الاموال العمومية والاموال المودعة لدى الخزينة.
وقد اعطى المرسوم نفسه في المادة 27 منه الحق للمدعي العام لدى ديوان المحاسبة نتيجة التقارير التي تصله من الديوان أو من التفتيش المالي أن يطلب من النيابة العامة التمييزية ملاحقة أي موظف يرى أنه ارتكب أو اشترك في إحدى الجرائم التي من شأنها أن تلحق ضرراً بالادارة العامة أو بالأموال العمومية أو المودعة في الخزينة وهنا تجري الملاحقة من دون إجازة من السلطة الادارية.
ولا يجب أن ننسى المرسوم رقم 1937 الصادر بتاريخ 16/11/1991 الذي حُددت بموجبه مهام وصلاحيات النيابة العامة المالية والتي تشمل التهرب الضريبي والبلدي والجمركي وغيرها من الرسوم وكل الجرائم المتعلقة بالقوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة ولا سيما قانون النقد والتسليف وطبعاً يحق للنيابة العامة المالية التحقيق في جرائم اختلاس الاموال العمومية.
لا شك أن إقرار قانون استقلالية القضاء وقانون استعادة الأموال المنهوبة يشكلان خطوة مفصلية ومتقدمة في المسيرة الاصلاحية وفي الحياة الاجتماعية وحتى السياسية في البلد ولكن لن نقتنع أن الاصلاح والتغيير لم يتما بسبب عدم وجود هذين القانونين النائمين في ادراج مجلس النواب.
لقد أصبح واجباً على الهيئات الرقابية والسلطة القضائية الاستفادة من هذه اللحظة التاريخية والتحرر من الوصاية السياسية عليها وبدء ورشة الاصلاح فوراً عبر التعاون ما بين ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي بدراسة ملفات الوزارات الاكثر شبهةً في البدء كالاشغال والطاقة والمياه ووزارة الصحة ووزارة التربية ولا يجب ان ننسى مجلس الانماء والاعمار وبلدية بيروت ثم الانتقال الى وزارات ومؤسسات عامة اخرى، طبعاً بعد الاستعانة بقطع حساب الموازنات السابقة، حيث يصار عند انتهاء التحقيقات الى إصدار تقرير موحد ينشر للعموم وبناء على هذا التقرير يقوم المدعي العام لدى الديوان بالادعاء بحق المرتكبين امام القضاء المختص.
وعلى النيابة العامة المالية ايضاً أن تلعب دورها وتبدأ بفتح تحقيق شفاف وواسع وشامل بكل الهندسات المالية وفضائح القطاع المصرفي عبر الاستعانة بمكاتب عالمية مختصة تصدر تقريراً ينشر للعموم ايضاً وبناء على هذا التقرير تقوم بالادعاء بحق المرتكبين امام القضاء المختص.
بعد هذه الورشة الاصلاحية تبدأ الملاحقات القضائية امام سلطة قضائية مستقلة واسترجاع الاموال المنهوبة استناداً لقانون استعادة الاموال المنهوبة اللذين يمكن إقرارهما في مجلس النواب في اول جلسة تعقد له، وعندها نكون امام إما الإبراء المستحيل وإما الإبراء الاكيد.