القمم الدولية، كقمة مجموعة العشرين، ليست مؤتمرات علمية أو فكرية بطبيعة الحال. لكن، أنْ لا تلتفت هذه القمم الى سجل اربعة عشر عاماً من الحرب العالمية على الإرهاب، وما أفضت اليه هذه الحرب، أو مجموع الحروب، لا يطمئن كثيراً.
فائض مكافحة الإرهاب في هذه العشرية ونصف أراد أن يقنعنا – ذات مرة – بأنّه أفلح بإبعاد اليد الطولى للإرهاب عن حواضر الغرب، بعد مضي سنوات عديدة على هجمات مانهاتن والبنتاغون ولندن ومدريد دون تكرار نوعي لمشهدياتها الدموية، وأنّه أفلح في لجم السيطرات الجهادية في الصومال، بالتدخل الأثيوبي، وفي مالي، بالتدخل الفرنسي – الأفريقي، وبـ»الصحوات» في الأنبار، وبأنّه يتحكّم بمسار مواجهة التشكيلات الجهاديّة في أفغانستان ووزيرستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن. فكانت سيطرة «داعش» من الموصل الى الأنبار، ومن الرقة حتى تدمر. وكان إسقاط الطائرة الروسية وهجمات باريس.
فائض مكافحة الإرهاب أقنع صنّاعه ومريدوه بأنّ أي صلة تعقد بين قضايا شعوب مسلمة مضطهدة كما في فلسطين والشيشان وكشمير وبين الظواهر المصنّفة ارهابية هو تبرير للإرهاب غير مقبول، وبأنّه يمكن رعاية التذابح المذهبي بين المسلمين في العراق وسوريا ولا قلق بأن يخرج أيّ من القطارين المتصادمين عن مسارهما التطاحني لإصابة مجالات أخرى.
فائض مكافحة الإرهاب شرّع التصرّف بخسّة مع مأساة الشعب السوريّ وتشرّد نصفه، دون أن يؤثّر ذلك على معنويات عملية مكافحة الإرهاب، والانجازات التي تحققها. بل جرى تبييض استخدام النظام السوريّ للسلاح الكيماوي ضدّ أهالي الغوطتين. لم «يقتنع» النظام الدولي وقتها بأن بشار الأسد يكافح الإرهاب، لكنه اقتنع بأنّه لا لزوم لتأديب الأسد على فعلته، ما دام سيفكّك الترسانة الكيماوية بمعرفته، ويكتفي ببراميل المتفجرات التي تمطرها طائراته السوفياتية والروسية الصنع على الآهلين والمسلّحين، دون فرق.
بالتأكيد ليس «تنظيم الدولة الإسلامية» مجرّد صنيعة لهذا النظام العالمي من الإستباحات والمظالم، ولا هو صنيعة هذه المخابرات أو تلك، وان تغذى من الجميع، على التوالي.
تنظيم «الدولة» هو الى حد كبير صنيعة نفسه، كتنظيم أعطى أولوية عقائدية وتعبوية وسياسية للإحياء العاجل لفكرة الخلافة، وليس الدعوة اليها لعقود طويلة دون الإقدام على اشهارها، ولا الاستعاضة عنها بإمارة السيف ليس الا، ولا الاكتفاء بفقه الحاكمية بشكل عام.
هذا الاحياء المنجز من طرف التنظيم الدموي الذي يسيطر حالياً على مساحات واسعة من العراق وسوريا، وتدين له بالولاء امارات جهادية متناثرة على امتداد عدد من أقطار العالم، وشبكات ارهابية متنامية في كبرى العواصم، طرح نفسه بإلحاح في فترة ما بعد تضعضع انتفاضات الربيع العربي، وعدم تمكنها من تجاوز المراوحة التاريخية بين العسكريتاريا والإخوان المسلمين، واطاحتها بالمسار الانتقالي نحو الديموقراطية، سوى في تونس، رغم كل صعوبات المسار التونسي، الذي يتحمّل حصّة غير قليلة من العنف الدموي هو أيضاً. في مواجهة منطقي «الدولة المدنية بمرجعية اسلامية» و»الدولة المدنية بمرجعية عسكرية»، أظهر تنظيم «الدولة» ردّه: «دولة الخلافة» كدولة خلاصية دموية.
المقاربة «الإرجاعية» لـ»داعش» الى لحظة بعينها كان فيها للتنظيم، في عملية تشكّله حظوة هنا أو هناك، ستظل قاصرة، طالما تجري المكابرة على ان التنظيم، والى حد كبير، من انتاج نفسه، وان اختلافه عن «تنظيم القاعدة» يرجع بشكل أساسي الى كون الأخير لم يتمكّن جدّياً من التأليف بين مصادره المتعدّدة في رؤية أيديولوجية متكاملة، في حين أن «داعش» تجاوز حتى، مرحلة تكوّنه الزرقاوية، في كنف «القاعدة«، ما إن وضع هدف اعلان الخلافة كمعيار لتوحيد مرجعيته العقائدية، وهدف سريع التحقيق، وليس كهدف مؤجل الى حين توفّر الشروط.
استعجال اعلان «نهاية الاسلام السياسي» ولو كان بالحديد والنار، ووأد الربيع العربي، عجّل الى حد كبير صعود هذه الكارثة الدموية، تماماً مثلما جذّرها الصراع المذهبي وتناحر المظلوميات. في الوقت نفسه، لا يزال خصم «داعش» على ذات الأرضية الجهادية الدموية، موجود، على امتداد العالم، اي مجموع ما يعرف بـ»تنظيم القاعدة»، والمعادلة مرة جديدة تكاد تكون أن اضعاف «داعش» سيصب لصالح اعادة تأهيل «القاعدة»، كما ان اضعاف «القاعدة» سيقوي «داعش».
أربعة عشر عاماً من الحرب العالمية على الإرهاب. ليس دقيقاً أنها أرست على خيبة شاملة. لكن عدم مراجعتها بعمق، وسرعة، سيفضي الى المزيد من الرعب الفائق. ليس ممكناً أبداً اعادة تدوير نفس الشعارات والسياسات التي عجنت السنوات الماضية بعد ان اتضح ان الإرهاب الجهادي مستمرّ في التطوّر والتوسّع. السنوات الماضية ينبغي مراجعة حصيلتها بعناية، وشمولية، لأنها توفّر خبرات ضرورية لمواجهة الارهاب، لكنها بقيت أسيرة لتصوّر ينحو لتفسير أصول الإرهاب ثقافوياً، ما يشكّل تواطؤاً مع رُهاب الإسلام، والى افقاد المواجهة الحربية والأمنية أي بعد سياسي أساسي.