لولا مداخلة النائب جورج عدوان، التي تناول فيها عمليات مصرف لبنان وتصرّفاته بالمال العام بلا أي رقابة أو محاسبة وعلاقاته التي هي «أكبر من أن يتخطّاها أحد»، لكانت مداخلات أكثرية النواب في جلسة أمس قد بقيت «مهووسة» بحسابات الانتخابات الصغيرة لا بحسابات الدولة المالية «الضائعة»، الى مستوى مناقشة مشروع قانون الموازنة بعد انقطاع دام 12 سنة حتى الآن، أنفقت الحكومة، في خلالها، وجبت ضرائب ورسوماً من الناس بآلاف مليارات الليرات من دون أي سند دستوري أو قانوني شرعي بإقرار من المجلس الدستوري
شكّلت مداخلة النائب جورج عدوان العنوان شبه الوحيد، أمس، في الجزء الاول من جلسة مناقشة مشروع قانون موازنة عام 2017. فهو نجح في نقل الكلام الجاري من مرتبة الخفّة والعراضات الانتخابيّة الرخيصة التي طبعت مداخلات معظم النواب، إلى مرتبة الجدّية التي يفتقدها المجلس النيابي الممدد لنفسه 3 مرّات خلافاً للدستور، والذي شرّع للحكومة، على مدى 12 عاماً، إنفاق نحو 145 مليار دولار وجباية نحو 103 مليارات دولار من الضرائب والرسوم والعائدات، واستدانة نحو 39 مليار دولار اضافية… بلا أي قانون للموازنة وبلا أي تدقيق أو حساب.
تشكيل لجنة تحقيق مع سلامة
فما الذي تناوله عدوان وأثار ردود فعل واسعة واستدعى ردّاً سريعاً من حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، من وراء البحار؟
بحسب الاحصاءات حتى نهاية حزيران الماضي، بلغ الدين العام الاجمالي المصرح عنه نحو 76.4 مليار دولار، منها نحو 32.3% سندات خزينة وسندات يوروبوندز يحملها مصرف لبنان مباشرة، أي ما يعادل 24.7 مليار دولار، ويتقاضى عليها فوائد من الخزينة العامة بما لا يقل عن 1.5 مليار دولار سنوياً، وهذا المبلغ يمثل مصدراً مهماً لأرباح المصرف المركزي. وتنص المادة 113 من قانون النقد والتسليف على تحويل 80% من مجمل الارباح التي يحققها مصرف لبنان الى الخزينة العامة في كل سنة، إلا أن المصرف لا يحوّل إلا مبلغاً مقطوعاً يقارب 40 مليون دولار سنوياً، منذ عام 2009 حتى اليوم، ما يعني أنه يغطي خسائره ويموّل جزءاً من كلفة هندساته المالية من خلال الموازنة العامّة، خلافاً للمزاعم المتكررة بأن هذه الكلفة والخسائر لا ترتب أي أعباء على المال العام ولا تسهم في زيادة الدين العام.
في هذا الشأن، قال عدوان إن المراقبة والمحاسبة غير موجودتين «لأن مصرف لبنان لديه علاقات أكبر من أن يتخطاها أحد»، ملمّحاً الى منافع تمنح للسياسيين والاعلام، ومتحدثاً عن قروض للتلفزيونات بقيمة 15 مليون دولار بفائدة صفر تقريباً، وقال «فيما نحن مشغولون بالضرائب، كان على مصرف لبنان أن يُدخل مليار دولار سنوياً الى الخزينة العامّة وليس العكس»، وأعطى مثالاً أن مصرف لبنان دفع 6 مليارات دولار كأرباح استثنائية للمصارف في الهندسة المالية في العام الماضي، من ضمنها 800 مليون دولار لأشخاص. طلب من وزير المال إطلاع مجلس النواب عن الأرباح التي حقّقها مصرف لبنان خلال السنوات العشرين الماضية، متعهداً بتقديم طلب «تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في حسابات مصرف لبنان في غضون 48 ساعة»، وهو ما شجّعه الرئيس نبيه بري، الذي قال «يسترجي حدا يقول لأ!».
عدوان: مصرف لبنان لديه علاقات أكبر من أن يتخطّاها أحد
سلامة لا يقول الحقيقة
سارع حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، إلى الرد على كلام عدوان، وقال: «لم تمضِ سنة من السنوات الـ20، التي تحدث عنها النائب عدوان، لم يقدم المصرف المركزي على قطع الحساب السنوي والتقدم به إلى وزارة المال ودفع ما يجب عليه أن يدفعه ضمن القانون».
في الواقع، لم يقل سلامة الحقيقة، إذ إن المادة 117 من قانون النقد والتسليف تنص على أن «يقدّم حاكم المصرف لوزير المالية قبل 30 حزيران من كل سنة الميزانية وحساب الارباح والخسائر عن السنة المنتهية، وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها. تنشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية خلال الشهر الذي يلي تقديمها لوزير المالية»؛ فمنذ عام 2002 لم يطبّق سلامة هذه المادة الا مرّة وحيدة، عندما نشر في 14/7/2016 (العدد 36 من الجريدة الرسمية) تقريراً ناقصاً عن عام 2015، وقد فعل ذلك تحت ضغوط تقارير صحافية نشرتها «الأخبار».
وجاء في رد سلامة أن «حسابات مصرف لبنان خاضعة للتدقيق من قبل شركتين دوليتين خارجيتين لا علاقة لهما بمصرف لبنان»، وقال: «تحدث النائب عدوان عن مداخيل المصرف المركزي من سندات الخزينة التي في محفظته، كأنها هي فقط البند الوحيد في المصرف وتشكل الدخل الكلي للمصرف، بينما مصرف لبنان من حيث القانون يقبل الودائع من المصارف ويدفع عليها فوائد. وعليه أيضاً أن يقوم بعمليات مفتوحة مع الأسواق بناء للمادة 70 من قانون النقد والتسليف للحفاظ على الاستقرار النقدي. ولذا، هنالك نقص في تحليل النائب عدوان، وهو أن مصرف لبنان لديه مداخيل ومصاريف من الفوائد»، لافتاً إلى أن «البنك المركزي له مداخيل أخرى من توظيفاته، وعليه مصاريف أخرى لها علاقة بكلفة مهام البنك وغيره»، ومشيراً إلى أن «مصرف لبنان خلال الفترة التي تحدث عنها النائب عدوان (أي منذ عام 1993) حوّل إلى الخزينة 4 مليارات و500 مليون دولار، وزاد أمواله الخاصة من 60 مليون دولار إلى 3 مليارات دولار».
هذا الرقم، أي تحويل 4.5 مليارات دولار الى الخزينة منذ عام 1993، يتضمن عمليات سابقة قام بها مصرف لبنان عبر احتساب فروقات سعر الذهب واستعمالها دفترياً في إطفاء جزء من الدين العام الحكومي، ولا سيما في أعقاب باريس-2، وبالتالي لا تمثل هذه حصة الخزينة من الارباح المفروضة بموجب قانون النقد والتسليف!
تقرير لجنة المال وتوصياتها!
وكان المجلس النيابي قد بدأ، أمس، جلساته المُخصّصة لمناقشة وإقرار موازنة عام 2017، التي أحالتها الحكومة إلى المجلس النيابي بعد انقضاء سبعة أشهر على المهلة الدستوريّة، والمُفترض أن تجيز للحكومة إنفاق وجباية المال العام في سنة صُرف أغلب اعتماداتها، وقبل شهرين من انقضائها. والأخطر، ورودها كنتيجة لاتفاق سياسي يسعى الى تمرير مخالفة دستوريّة إضافية، تقضي بعدم إنجاز الحسابات الماليّة النهائية للدولة عن السنوات السابقة، وعدم إقرار قطع الحساب، لا بل تعليق هذا الموجب الدستوري لمدّة سنة، إلى حين انتهاء وزارة الماليّة من إعدادها والتدقيق فيها.
استهلت جلسة المناقشة بتنويه الرئيس بري بعمل لجنة المال والموازنة التي درست مشروع القانون، وأجرت تعديلات عليه، فخفّضت الاعتمادات المرصودة بقيمة 1004 مليارات ليرة. عرض النائب ابراهيم كنعان تقرير اللجنة مرفقاً بمجموعة توصيات من المُفترض أن تأخذ بها الحكومة عند إعداد موازنة عام 2018، أبرزها إنجاز حسابات ماليّة مُعدّة أصولاً ومُدققة من ديوان المحاسبة، وإلغاء إدارات رديفة (UNDP)، وإعادة النظر في هيكلية الإدارات العامّة وأجهزة الرقابة وملاكاتها ورفدها بالعناصر المؤهلين، وإعادة النظر في المساهمات التي تقدّم لغير القطاع العام وتحديد المعايير اللازمة لمنحها والجدوى منها، واقتصار اعتمادات مجلس الإنماء والإعمار من القروض والتمويل المحلي على ما سيستعمل فعلياً منها، وغيرها…
العراضات الانتخابيّة!
أمام أهمّية هذا الحدث، بعد مرور 12 عاماً على إقرار آخر موازنة عامّة أُرسي خلالها نهج متفلت من أيّ رقابة ومساءلة في إنفاق المال العام وجبايته، وتحت وطأة الضغوط التي تمارسها المؤسّسات المالية الدوليّة ووكالات التصنيف، اتصفت مناقشة «ممثلي الأمة» لموازنة 2017 بالمراهقة لناحية التعاطي مع المخاطر الجدّية التي تتهدّد ماليّة الدولة؛ فبدلاً من مناقشة بنود مشروع الموازنة المعروضة أمامهم، تحوّل منبر مجلس النواب منصّة لإطلاق الشعارات عشية الانتخابات النيابيّة.
كان على مصرف لبنان ان يُدخل مليار دولار سنوياً الى الخزينة العامّة وليس العكس
المطالب الإنمائيّة و«أوجاع الناس» شكّلت محور حديث أغلب النواب، من البقاع إلى بيروت، ومن الشمال إلى جبل لبنان، فيما كان النائب سيرج طورسركيسيان يمارس هواية «التنكيت». تصدّر نواب الشمال حلبة المداخلات الانتخابية، وتباروا في استنهاض الشارع «السنّي» عبر تكرار «معزوفة» المظلوميّة التي تتعرّض لها «الطائفة». ابتعد النائب أحمد فتفت في كلمته عن مناقشة الموازنة، مضفياً إليها الطابع السياسي، ومنتقداً شعار «استعادة الثقة» الذي ورد في البيان الوزراي، باعتبار أنها «ستبقى مفقودة في ظل وجود سلاح غير شرعي، وتطبيق سياسة النأي بالنفس استنسابياً، وتعطيل مسابقات مجلس الخدمة المدنيّة بحجّة التوزان الطائفي». أمّا النائب أنطوان زهرا فاستغل المنبر للتصويب على «العهد وتياره»، مشيراً إلى أن «مشروع المسيحيين هو الدولة وليس حصّتهم في الدولة، وحقوقنا ليست بالنهب، وأن الوطنيّة لا تعني المفاخرة بالعنصريّة بل بتعزيز الإنسانيّة بعيداً من العدائية والانعزاليّة». لقب «نجم الجلسة» ناله النائب خالد الضاهر الذي استهلّ كلمته بآية قرآنية، محوّلاً النقاش إلى عناوين شكّلت موضع جدل متكرّر بينه وبين بري، بعد أن ركّز فيها على الصراع السنّي الشيعي وخلفياته العقائديّة، وسلاح حزب الله وزجّ شبابه في الحرب السورية، ما دفع النائب علي المقداد إلى ترك القاعة.
نظام ضريبي جديد عادل
حذّر عدوان من اتجاه لبنان نحو الهاوية، كون «70% من النفقات مخصّصة للرواتب ودعم الكهرباء وخدمة الدين، و9% للنفقات الاستثمارية، فيما الدين ارتفع إلى 72 ملياراً ونتوجه إلى 80 ملياراً هذا العام، وخدمة دين من 3 مليارات إلى 5 مليارات دولار». كذلك تطرّق إلى ملف الكهرباء، داعياً إلى «إيقاف الهدر فيه، والتوجه نحو بناء معامل لإنتاج الكهرباء تعمل على الغاز المسيل وتخفيف الأعباء المترتبة جراء البواخر».
كذلك كان للنائب علي فيّاض مداخلة في صلب الموضوع أشار فيها إلى أن «قيمة هذه الموازنة تكمن في إصدارها بعد توقف دام 12 عاماً، إلّا أنها لا تؤدي أي دور في معالجة الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وما هي إلا استمرار للسياسة القديمة التي أدت إلى تدهور المالية العامة، وتالياً إن إقرار القانون دون قطع الحساب يجعل منه قانوناً غير دستوري». وركّز فيّاض على «ضرورة إنشاء نظام ضريبي جديد عادل، بعد التعديلات الضريبيّة التي أقرّت أخيراً، والتي قد يضاف إليها أكثر من 25 ضريبة جديدة ومعدّلة مدرجة في الموازنة»، كذلك دعا إلى «صياغة استراتيجيّة تستهدف خدمة الدين العام (28.7% من النفقات)، باعتبار أن تخفيض الفائدة بمعدل نقطة واحدة سيؤدّي إلى تخفيض هذه الكلفة بنحو 500 مليار ليرة»، فضلاً عن التحوّل إلى «سياسة التقشف وتحديد سقف سنوي للإنفاق لا يتجاوز معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي، وضبط الجمارك كون الإيرادات الجمركيّة انخفضت خلال السنوات الخمس الماضية فيما ارتفع حجم البضائع المستوردة، ومكافحة التهّرب الضريبي باعتبار أن إيرادات ضريبة الـTVA مستقرّة على عتبة الـ3300 مليار في حين أن الناتج المحلي الإجمالي ازداد بمعدل 2.4%، لذلك هناك نحو 800 مليون دولار من عائدات الضريبة لا تجد طريقها إلى الخزينة، ما يستدعي توسيع قاعدة المكلفين كالمهن الحرّة وعمليات انتقال الأسهم».