مرة أخرى تطفو مشكلة المسح العقاري في بلدة لاسا إلى سطح التجاذبات الإعلامية والسياسية على الرغم من كونها قضية قانونية ذات أبعاد فائقة الحساسية ينبغي أن تعالج بهدوء وروية.
لكنّ تسارع وتيرة الضخ الإعلامي يكاد يضفي على الموضوع أبعاداً غير مستحبة في التوقيت، وفي الظروف الحالية التي قد تدفع بالموضوع كله محل الخلاف إلى مسارات لا يريدها الجميع. فالقضية، باختصار، هي موضع تعرّض لغير مختصين، ومكان جدل لهواة، في غفلة عن صعوبة التعامل مع حقيقة قد تفتح صفحات التاريخ على مصراعيه أمام آلاف من الوثائق والحجج الدامغة التي قد تعيد برمجة الواقع وصياغته من جديد. فالقضية موضع الخلاف ليست بالبساطة التي يحلو للكثيرين التعامل معها، وكأنّ هناك مجموعة من المشاغبين الخارجين على القانون يمنعون الأبرشية المارونية من تنفيذ خرائط مسح عقاري رسمي قانوني بحوزتها، في الوقت الذي لا يتساءل فيه «الهائجون» عن مدى شرعية وقانونية الخرائط ذاتها وعلى أي أسس وأدلة قامت. كل ما هو موجود هي خرائط تعود لعملية مسح جرت في سنة 1939 على عجل، وفي غفلة من الزمن، من دون أن تأخذ في الإعتبار حجم الإحتجاجات الواسعة التي قامت آنذاك من المتضررين والمنهوبين، والذين لم يكونوا من لون طائفي واحد. بل إن احتجاجات ميفوق جبيل المارونية فاقت مثيلتها لاسا الشيعية، وكانت احتجاجات دموية وسقط فيها ضحايا، مع الإشارة إلى أن المسّاح الذي قام بالمسح هو نفسه في البلدتين.
ما يجري اليوم، وببساطة، هو محاولة إعدام بلدة. فبعد فصلها عن بعدها الجغرافي تستكمل عملية المسح قضم ما تبقّى لتجعل منها جزراً مقطّعة الأوصال وغير قابلة للنمو السكاني والعمراني، في عملية تبدو مبرمجة للبعض الذين عاينوا تاريخا موثقا من المظالم التاريخية. فلم يكن الإستيلاء على قطاعات واسعة من الأراضي يجري بطرق قانونية، بل بفعل مصادرة أو إبتزاز. ومثال بسيط هو ما ورد في حجة تاريخية نادرة، ولكنها ليست وحيدة، عن «مليحة حمادة» التي تنازلت عن بيت أبيها وعقاراته للدير مقابل «غداء وكسوة»، في صفحات من تاريخ أسود لم يكن باستطاعة المالكين الشرعيين أن يمتلكوا من الوسائل ما يكفي لتثبيت وجودهم في زمن المتغيرات الديمغرافية.
إن التطرق إلى المتغيرات الديمغرافية أمر شديد الرداءة في هذا الوقت بالذات، وإعادة نبش الأرشيف العثماني ومراسلات القناصل الأجانب لإثبات أحقية مواطني لاسا في أرضهم ليس في محله مطلقاً، لأنّه قد يفتح أبواب التاريخ على مصراعيه لإعادة صياغة جديدة للأحداث. وهي أحداث تنتهي بالتأكيد أن أول وجود مسيحي في بلاد جبيل وكسروان ــــ والتي كانت تعرف بخسروان نسبة إلى الداعية الشيعي الإسماعيلي ناصر خسرو ــــ يعود لسنة 1712، وأن أول كنيسة أقيمت هي كنيسة حراجل، وأن الحضور الشيعي كان هو السائد بالمطلق في قرى وحواضر المنطقة. فهل هناك أي معنى اليوم لكي يطالب أحدهم الأبرشية بأدلة ووثائق عن كيفية حيازتها لأملاكها وعلى أي أسس قامت؟
بالتأكيد الموضوع ليس محل جدل وليس مطروحاً للنقاش في ظلّ الكوارث التي تحيط بنا وفي دوامة الصراعات المذهبية في المنطقة والمحيط.
إن التعامي عن الحقائق بكليتها وإدراجها في خانة أنّ هناك من يقوم بعرقلة أعمال المسح وممارسة البلطجة على أملاك الأبرشية مستندا إلى بأس الثنائية الشيعية هو أمر مغاير تماماً للحقيقة. فالثنائية الشيعية، وبالأخص حزب الله هو موضع ملامة من مواطني لاسا لعدم إعارته الإهتمام الكافي في ما يتعلق بالمسألة وبمداراته الفائقة للطرف الآخر. وهذه إحدى الحقائق الجليّة. ثمّ أن العزف على هذا الوتر كجزء من ممارسة ضغوط لترهيب الوعي الجمعي المسيحي ليس من السهولة أن ينطلي على أحد في الوقت الذي يظهر فيه حزب الله بصورة الحامي للأقليات والمضحّي من أجل وجودها الآمن.
مقاربة أزمة المسح العقاري يجب أن تأخذ منحى مختلفاً على أن يكون كل شيء قابلا للبحث والنقاش بما ذلك شرعية الخرائط العقارية التي بحوزة الأبرشية. فليس من شيء أقدس من شرعية الوجود ذاته. ولاسا مهددة في وجودها، ومن الطبيعي أن نتفهّم من هو في وجوده مهدد.