Site icon IMLebanon

تعليق الدستور والميثاق: لاشرعية الشرعية

 

لبنان وصل، لأسباب عدة، إلى وضع يشبه «كاتش 22»: مأزق لا مخرج منه. مأزق محروس بقوة السلاح. لا فقط مأزق التصرف بالبلد كأنه مجرد «ميدان» في حرب مشروع إقليمي على حساب لبنان والعرب، ويواجه تحديات إقليمية ودولية، بل أيضاً مأزق تجريده من مقومات الدولة. فالحرب مدمرة بقرار مفروض عليه لا يستطيع رده، ولا حتى مناقشة صاحب القرار من دون الإتهام بالخيانة الوطنية. وسياسة المافيا المتحكمة به بلا واجبات الحكم ومسؤولياته تمنع أي حل للأزمات الضاغطة على الناس مالياً واقتصادياً واجتماعياً والموظفة سياسياً في القبض على الحاضر والحد من الأمل في المستقبل.

 

ذلك أن المشاركة الحقيقية الكاملة في السلطة كانت ولا تزال محور الصراعات، حيث هي في جوهرها الحل والتجسيد السياسي للعيش المشترك. وفي كل مرحلة تتبدل هوية الشاكي من نقص المشاركة وهوية المشكو منه المستأثر باللعبة. ومن هنا جاء في مقدمة الدستور بعد إتفاق الطائف أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». فالترجمة المباشرة لهذه المعادلة الجوهرية هي أنه لا شرعية لأي سلطة تمتنع عن القيام بواجباتها الدستورية. وفي هذا الإطار يمكن القول إن مجلس النواب فقد الشرعية، وإن كان في حال قانونية، لأنه ممتنع عن انتخاب رئيس للجمهورية في أصعب الأوقات على لبنان. والشغور الرئاسي خروج على العيش المشترك الذي هو «رسالة البلد»، لأنه يجعل المشاركة في السلطة ناقصة. والأخطر هو تعليق الدستور عملياً.

 

لكن من يهيمن على السلطة ويعمل من خارج الشرعية، لا يزعجه نقص الشرعية، ولا يعبأ بالدعوات للإحتكام إلى الدستور. فالشرعية الرسمية ليست شرعية بالنسبة إلى جماعة «الشرعية الشعبية الثورية» وجماعة «الشرعية الإلهية». و»التكليف الشرعي» يتقدم على أي تكليف قانوني. ولا شيء يكمل تعليق الدستور سوى مط «الميثاق الوطني» إلى حد إفقاده معناه.

 

يقول العلامة الدكتور إدمون رباط، إن «الميثاق وُجد كوظيفة في خدمة الهدف الدستوري، وعليه أن يؤدي إلى الإندماج الوطني الذي يمتص الخصوصيات الدينية والمناطقية، ويغذيه قيام الحس الوطني المندفع إلى إقامة الدولة-الأمة». وهو اعتبر أن الفقرة «ي» من مقدمة الدستور، أي التي نصت على أنه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، «مبدأ خطير وخطر جداً لأن من شأنه أن يجعل كل رئيس جمهورية وحكومة معرضاً للإقالة إذا ما توجهت إليه التهمة بأن سياسته ومواقفه وأفعاله قد تظهر بوادر الإنقسامات الطائفية، وبات لكل مواطن أن يلجأ إلى هذا السلاح إذا بدا له أن ثمة عملاً أو سياسة أو إتجاهاً من شأنه أن يهدد ميثاق العيش المشترك».

 

ونحن اليوم في وضع معاكس تماماً للميثاق. صراع الهويات يطغى حتى على الأزمات الحياتية. العصبيات المذهبية والطائفية تكبر بدل الإندماج الوطني. سياسيون يحاولون إدارة أزمات نظام لا يفهمون جوهره ولا يستطيعون التوصل إلى تسويات، ولا يريدون حلاً جذرياً لأنه يلغي مصالح أمراء الطوائف. والنقاط الأربع التي كانت أساس ميثاق 1943، وهي «لا وصاية، لا حماية، لا امتياز ولا مركز ممتازاً» تبخرت في الهواء، وصرنا تحت وصايا وحماية وكثير من الإمتياز لصاحب مركز ممتاز.

 

يشكو الفيلسوف الفرنسي جان بودريار من أن «جميع نُصبنا أضرحة». ونحن أكثر من سوانا محكومون بالموتى والماضي.